الرمز هو تلك المرجعية التي تمثل الفئات والجماعات وتتجسد فيه مبادئها وهو الترجمة الحية للعقل الجمعي لجميع أفرادها فهو كالأطار الجامع لمركب الأفراد والأفكار والتكوينات الجماعية لهذه الفئة أو تلك الجماعة بحيث يشار به إليهم ويستدل به عليهم‘ كما أنه هو المنوط به ـ في الغالب ـ رعاية فرقته وصيانة جماعته بحيث يلم الشعث إذا تفرقت ويستنهض الهمم إذا فترت‘ بل وصياغة أطرها النظامية وهياكلها الداخلية.
ولعل من أهم الصناعات التي تخلفت فيها أمتنا عن ركب الحضارة الصناعية في حين انطلقت الأمم هو مجال صناعة الرموز! فلم يعد مفهوم الصناعة قاصراً على الصناعات الخفيفة ولا حتى الثقيلة سواء المعدنية منها أو غيرها وإنما تعدى الأمر إلى صناعة السينما وصناعة الخبر وأخيراً وليس آخراً صناعة الرمز أو النجم!!
غير أنه لم يعد أحد قادراً على قراءة طالع هذه النجوم ولا التنبوء بزمان صعودها ولا لحظة أفولها خاصة في زمن الميديا والفضائيات والإنترنت وما نتج عنها من عولمة الثقافة وشيوع المعلومات‘ وإنما يدل اللمعان قبل الانطفاء على إبهار الشكل وهشاشة المضمون غالباً إذ لا تتوفر في نجوم من هذا النوع مواصفات الصناعة الجيدة.
وحق لسائل ان يسأل كيف يصنع النجم أو الرمز وما هي المواد الخام وآليات الصناعة وهل يراد لنا ان نصنع رمزاً ورقياً أو نجماً عجول الأفول سرعان ما ينطفئ ويزوي لتعود أمتنا مرة أخرى ترزح في ظلمات اليأس ونير الجهل أو تسدر في ثوب الغفلة وديجور الفناء؟!
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نذكر أهم عناصر بزوغ النجم أي نجم‘ وبروز الرمز أي رمز وهي كالتالي:
أولاً: الفئة الحاملة :
فإذا كان الرمز يمثل الإطار والمرجعية أو الغطاء الفكري والتوجيه العملي‘ فإن الفئة أو الجماعة تمثل كذلك القاعدة التحتية لهذا الإطار‘ فبغيرها لا يقوم وعلى قدر صلابتها أو هشاشتها تكون قوة هذا الرمز أو ضعفه وربما ضياعه بالكلية كما ضيع الليث بن سعد أصحابه لما لم يحملوه رغم أنه أفقه من مالك حسب اجتهاد الشافعي رحمه الله.
والثاني: الظرف التاريخي :
فكثير من الرموز العبقرية صنعتها أيضاً الظروف العبقرية‘ أو الحتمية التاريخية والتي لولاها ما ظهرت تلكم الرموز ولا بلغ ذكرها أسماع الناس مهما كان تميزها‘ فظرف كاحتلال القدس هو الذي صنع صلاح الدين وظرف كغزو التتار هو الذي أخرج سيف الدين قطز والجاشنكير وظرف كاحتلال فلسطين هو الذي أظهر عز الدين القسام والشيخ أحمد يس رحمهم الله جميعاً.
والثالث: البيئة المواتية :
وأعني بها قابلية الوعاء المكاني و مناسبة التجمع السكاني أو ما يمكن أن نسمية بالبعد الديموجرافي وهو ما كان سبباً ـ بالإضافة إلى عوامل أخرى ـ في قيام دول وسقوطها فقد كان أحد أهم العوامل في نجاح حركة كحركة العباسيين في إقامة ملكهم حيث خرجت الحركة من أرض خراسان واعتمدت على أهلها الأشداء الذين لا يعرفون إلا الإسلام والموت في سبيله وبعيداً عن القوى المركزية في الحواضر‘ بينما تسبب نفس البعد في فشل كل أو أغلب حركات العلويين لخروجها ـ أكثر ما خرجت ـ من العواصم حيث تتركز قوة الدول وهو ما سهل القضاء عليها وضربها.
ونحن مطالبون أمام الأجيال القادمة وبموجب الأمانة التي ينبغي أن نحملها والمسؤلية التاريخية التي تلقيها على أعناقنا تحديات الأقدار التي تمر بها أمتنا‘ نحن مطالبون أن نصنع هذا الظرف المواتي أو على الأقل نهيء له الأجواء كما أننا مطالبون باكتشاف هذه الرموز العبقرية والتفتيش عنها بين كوادرنا وما أكثرها لولا الركام الذي يغطيها والغبش الذي يخيم عليها بل والهزيمة النفسية التي عششت بداخلنا حتى غفلنا عنها بل و ربما حاربناها ـ وياللأسف عن قصد أو غير قصد ـ حين فقدنا الأمل أن يوجد هذا الرمز المثالي من جديد.
ونحن مطالبون أيضاً بانتقاء البيئات المناسبة كمحاضن لصناعة رموزنا ومطالبون ضرورياً بانتهاج ما يناسب هذه البيئات من أساليب دعوية أومعاملات إنسانية وسياسة شرعية من الحركة أو الكمون والالتحام أو السلام.
ولا ينبغي هنا التعلل بالظروف القهرية والحصار العالمي والمحلي والذي يهدف للحيلولة دون ظهور أي رمزية إسلامية كبرى‘ فإذا كانت الموجبة الكلية لا تزول بالسالبة الجزئية فإن كثير من الرموز المحدودة و الداعمة قادرة على صنع الرمز الأكبر وحمايته حتى ينضج خاصة أن التضييق عليها أقل وبالتالي فإن قدرتها على الحركة أوسع‘ شريطة أن تكون هذه الرموز مؤهلة عقائدياً ومعدة حركياً لهذا الأمر بحيث يكون همها الأكبر تتويج جهود الأمة بهذا الرمز الجامع.
وإذا نجحت أمتنا في لم الشمل وتواصل المؤمنين فيها والعاملين من أجلها وعمل الجميع من أجل هذا الهدف وهو صناعة الرمز بإبراز الكوادر المميزة مهما كانت صغيرة وإعدادها بشكل جيد يجعلها مؤهلة على الصعيد الشخصي والشرعي للقيام بهذا الدور مع ترصد الظرف التاريخي واختيار البيئة المناسبة دون تحيز فئوي أو عصبيات ضيقة‘ عندها وعندها فقط يبزغ فجر أمتنا من جديد ونستطيع صناعة الرمز.
التعليقات