قامت ثورة 25 يناير رافعة شعارات ثلاثة أساسية و هي : العيش ، و الحرية ، و العدالة الاجتماعية . ثم حدثت محاولة التفاف و احتواء مبكرة للطبقة العسكرية المهيمنة و المتحكمة ، على مسار الثورة و كذلك على النظام القديم نفسه الذي كانت و مازالت تحمل منطلقاته وأيديولوجياته ذاتها ، تلك الأيديولجيات التي تؤمن بهيمنة طبقة الرأس مالية العسكرية إن جاز التعبير ، و هو تحول حقيقي في حركة و عقلية النخبة ابتدأه عصر السادات مع تدشينه لسياسات الانفتاح و تجاوز الاشتراكية كسياسات اقتصادية و أيديولجية وكرسه عصر مبارك في أبشع و أشنع صوره . و لتصنع مصر أم العجائب مرة بعد مرة ثنائية عجيبة قد تبدو متناقضة لأول وهلة ، فبعدما اعتاد الناس على التعامل مع الحكومات العسكرية على أنها كانت أقرب دائماً للنظم الشمولية الاشتراكية أو الشيوعية ؛ فقد جمعت أنظمتنا هذه بين الرأسمالية الغربية المتوحشة في أبشع صورها بما يتجاوز دور الدولة و يطحن الفقراء بشكل كامل و بين الحكم العسكري المركزي و الشمولي و الأمني .
و عندما انطلقت ثورة يناير بهذه المنطلقات أو إن جاز التعبير الركائز الثلاثة فإنها كانت و كأنها قد تماست مع منطلقات اليسار بأطيافه المختلفة و في مساحاته المشتركة ، فالعيش و الحرية و ( العدالة الاجتماعية أو الكرامة الإنسانية ) ـ على وجهين ـ تشابه حقاً ما يدندنون عليه و يرنون إليه أو يزعمونه من مبادئ سيأتي نقضها لاحقاً إن شاء الله ، وقد اخرت ذلك عامداً لانغماسي في معضلة الواقع الآن لا فضاء التنظير .
لكن المشكلة الجسيمة التي واجهت اليسار كانت في التعدد الانشطاري لأطيافه مع المحدودية الشديدة لأفراده ، و هي المعضلة التي قامت قوى اليسار الواعية و المنتبهة للمسارعة في علاجها كما أسلفنا من قبل باستغلالها للحراك الجماهيري و الانتشار الهادئ بين التجمعات الشبابية في الجامعات و الميادين ؛ بل تكاد أن تكون هي الفئة السياسية الوحيدة التي انتبهت لهذا البعد الجماهيري ، و رغم أن ذلك لم يحقق لها احتواء قاعدة عريضة بطبيعة الطرح اليساري الثقيلة و التي تجعله دائماً يلعب في حيز الاحتياط و الهامش ، لكننا و لأول مرة صرنا نسمع من بعض الشباب في الجامعات المصرية و منذ فترة منتصف الثمانينات ؛ مصطلح يساري أو منتمي إلى اليسار !!
و مع هذه المحدودية و مع تقدم التيار الإسلامي الخارج لتوه من قمقم السجون و الاضطهاد كالمارد ، وانشغاله عن محيطه الشعبي بل و قواعده التحتية نفسها ، و مع ذلك فقد سيطر عن طريق الانتخابات و الصناديق على كل المؤسسات التشريعية و الرئاسية والدستورية ، و لذا فقد أدركت قوى اليسار ؛ بقياداتها الفريدة لهذه المرحلة ، أنه ليس أمامها مزيداً من الوقت في ظل هذه الأوضاع و تلك المحدودية ، فسارعت هذه القوى على الفورإلى لزوم بقية القوى السياسية المناوئة للحالة الإسلامية متمثلة في المجموعات الليبرالية ، لتلتقي معها و رغم تناقضهما الأيديولوجي الشديد ـ أي اليسار والليبرالية ـ إلا أنهما استطاعا في تحرك فريد أن يجتمعا على بعض المشتركات البعيدة جداً لكنها صارت ممكنة ، مثل خلفيتهما اللادينية أو العالمانية وما ينبني عليها من عداء شديد للتيار الإسلامي عقائد و جماعات !!
رضي اليسار إذن أن يمثل دور الخادم القوي و الفعال ـ خاصة مع سيطرته على المنافذ الإعلامية والحقوقية ـ وأن يقدم خدماته الفكرية و المادية للتيار الليبرالي على أن يتخذ منهم ستاراً أفضل سمعة بفعل التزيين الإعلامي ، وأكثر عدداً بفضل الانفتاح السياسي و المناشطي ، لكي يُسقطوا معاً التجربة الإسلامية في الحكم ؛ بعد دراسة عوارها جيداً و استكشاف أهم نقاط ضعفها ، بينما اندفعت القوى الإسلامية في مفازة ما بعد الثورة ؛ كالأعمى يقود أشلاً ؛ أعني الإخوان يقودون غالب القوى السلفية ـ خلافاً للنوريين طبعاً ـ إلى هاوية السلطة ومهلكة ما بعد القمة غير عابئين بما يحتفهم في هذا و قبل ذلك من خصوم و مناوشات قاتلة و تاركين لأهم أداواتهم و آلياتهم و هي المحيط الشعبي ؛ الذي بدأت قوى الأقلية استلابها منهم واحدة فواحدة بينما هم منشغلون بوهم الأغلبية.
و لم يكن هذا التحالف الليبرويساري ليحقق الفوز بالضربة القاضية فكان لابد من الالتحام ببقايا النظام الفائت باعتبارها قوى لا يستهان بها مازالت رابضة في قاع الدولة ومتحكمة في حركة سطحه ؛ وأخطرها المؤسسة العسكرية والداخلية والقضاء والإعلام والجهاز الإداري والمحلي في الحكومة ، فقد تجاوزت القوى الليبرالية دعوى المدنية فقبلت بالحكم العسكري ، كما تجاوزت قوى اليسار توحش المؤسسة العسكرية الاقتصادي و عقيدتها الرأسمالية فقبلت بتحويل الوطن إلى شركة خاصة بالزي العسكري المموهش.
لكن مصر لن تموت ..
التعليقات