أين كنت؟ {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1].
- أيُّها الإنسان سأخاطب فيك إنسانيتك المتميزة التي تشعر بها، تملأ وجدانك بآلاف الأفكار والمشاعر، الأحلام والمواقف والعلاقات المتشابكة، بآلامك وتساؤلاتك وآمالك في مستقبل ممتد ومتجدد باستمرار.
- أين كنت؟ .. سؤال البداية، وبه تكون البداية. لا أسألك عن يومٍ قريب مضى في ذاكرتك، لكنِّي أسألك عن مائة عام، وألف عام، ومائة ألف عام، وأكثر، في عمق التاريخ، وفي غيب الأول، قبل أن يشعر بك إنسان، أو أن يفكّر فيك إنسان، بل قبل أن توجد أنت يا إنسان، أو أي إنسان آخر..
- أليست المسافة واسعة بين عدمٍ محض، حين كنت لا شيء، وبين إنسان متميز يملأ الدنيا صخبًا وضجيجًا وأشغالًا وأحداثًا؟ بلى إنها مسافة واسعة حقًّا، حتى وَصَلْتَ إلى الوجود، وسكنت الدنيا سيدًا في هذا العالم.
- كيف جئت؟ وكيف ملكت الدنيا؟ إنك لم تحضر نفسك بكل تأكيد، فمجيئك لم يكن باختيارك، كان مفاجأةً لك حين شعرت بنفسك وفكرت فيها، ربما يقلل المفاجأة أنك لست وحدك، بل إنك مثل كثير من الناس جاءوا، لكنهم كلهم أيضًا مثلك، لم يُحضِروا أنفسهم، ولم يجتروا، بل يتفاجئون حين يشعرون بأنفسهم ويفكرون فيها. إننا أيضًا لم نحضِر بعضنا، ولا يملك أحدنا ذلك، ولا حتى مجموعنا، فكيف جئت؟ وكيف ملكت الدنيا التي لقيتها ولم توجِدها أيضًا؟
- إن سرّ الأزل القديم، هو سر بداية هذا الوجود العظيم، وهو مفتاح الحل للغز الحياة لإنسان بجسم متميّز، لكن ليس مجرد ذلك الجسم فقط، إنّه بعقل متميّز يفكّر ويتساءل ويريد أن يفهم، وإنّه بروحٍ متميزة بمشاعر وأشواق وتريد أن تطمئن؛ إنه إنسان، إنّه أنا وأنت.
- وأول ما يحلّ هذا اللغز، ويكشف سرّه المستور، أن يغرس في أعماقك ذلك النظر إلى بداية عدمية ومسافة هائلة، إلى وجود إنساني متميز، يغرس في يقينك أنك لست وحدك، بل إن هناك غيرك وغير باقي الناس، ربًّا خلقك، فكان وجودك من آثار وجوده، وهو موصوفٌ بأكمل الكمال، فكان كمالك النسبي من آثار كماله المطلق.
فاطمئن أيُّها الإنسان؛ لأن لك ربًّا عندما لم تكن شيئًا، وعندما لم يكن أحد يعرفك أو يفكر فيك كان بك عليمًا، وبعلمه وقدرته خلقك فسوّاك فجئت إلى الدنيا إنسانًا كريمًا بإرادة ربنا واختياره، فها أنت الآن موجود ومذكور في الحياة، لأنك إنسان، فلا تنسَ ماضيك.
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1].
لماذا أنت هنا؟ {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2].
- أيُّها الإنسان.. في لحظة إدراكك لنفسك، إنك لا تدرك نفسك في فراغ، بل إنك تدرك نفسك في عالمٍ يحيط بك، سماوات شاسعة فوقك بنجومها وكواكبها وأفلاكها لا يبلغ بصرك آخرها، وأرض ممتدة تحتك، سهولها وجبالها وبحارها وأنهارها، كلما سرت رأيت في الأفق منها جديدًا، ومخلوقات لا تحصيها تحيط بك، من كائنات دقيقة لا تراها بعينك إلى أخرى أكبر منك وأضخم، ما بين مُستأنس ومتوحش، وما بين بريٍّ وبحري.. إنك لا تعيش في فراغٍ أبدًا.
- أين أنت يا إنسان؟ إنك تعيش في عوالم هائلة، إنّها حولك، وأنت محفوف بها لا ينفصل وجودك من وجودها، فأنتم تعيشون في واقع مشترك رغمًا عنكم، إنّها عوالم كثيرة، لكنها متكاملة، متوازنة، مُتقَنة بشكل يبهر عقولنا البشرية. هذا الإحكام لا يأتي إلا عن علمٍ كامل، وقدرة شاملة، فهذا الإحكام يشهد أن وراءه إرادة مقصودة، وحكمة بالغة، فالعبث لا ينتج عوالم محكمة الصنع أبدًا.
- إنّ دعوى الصدفة العبثية هي جهلٌ وجنون؛ أمّا الجهل فيها؛ فلأن الصدفة واحتمالاتها قوانين رياضية، وتوالي ذلك الكم الهائل من الصدف السعيدة المتجهة لهذه العوالم المتقنة المتكاملة المتزنة، هو أمر يحتاج إلى أضعاف عمر هذا الكون كما يعرف العلماء، فهذا الجهل. أما الجنون؛ فلو عاشت قبيلة من القرود مع مجموعة من الآلات الكاتبة، منذ وُجدت القرود إلى يومنا هذا وهي تضرب على حروف الآلات الكاتبة جيلًا بعد جيل، فإن توهُّم أن ذلك يمكن أن يخرج لنا رواية واحدة متقنة، هو وهم لا يدعيه إلا مجنون، ولا يصدقه إلا مجنون آخر.
- إنك لا تستطيع أن تفهم نفسك حقًّا دون أن تفهم مكانك، ودون أن تفهم ما حولك، فأنت جزء من نسيج، تتعرَّف عليه كل يومٍ أكثر، من الذرة إلى المجرة، فيه من التماثل والاشتراك ما يشهد للوحدة التي صدر عنها، وصنعته بهذا الإتقان، وفيه من التمايز والاختلاف ما يشهد للإرادة والاختيار التي بها يقصر كل موجود ويتكامل مع غيره، بل إنك أنت نفسك عالم من هذه العوالم بما تشمله من أجزاء ومكونات، ما زالت في وظائفها وتعاونها، وإحكامها الذي يحقق حكمتها تتكشّف لك يومًا بعد يوم.
- هل يمكن أن يكون إحكام وجودك منذ أن كنت خليتين قابلتين للاندماج، ثم بعد أن اختلطتا في خليتك الأولى، ثم انقسمت إلى كل خلايا جسمك المتنوعة لتشكل هيكلك وأعضاءك وأجهزتك حتى خرجت إلى الدنيا، وشببت إنسانًا يدرك نفسه، ويفعل باختياره، هل يمكن أن يكون إحكام وجودك وإحكام العوالم حولك إلا لحكمة بالغة تتناسب مع هذا الإحكام؟
- ألا ترى ما مُيِّزت به من تسخير الكون لاستخدامك على ضخامته وصغر حجمك؟ فإذا كنت أنت حكمة الكون، فهل يمكن أن تكون إنسانًا بلا حكمة، هي الغاية المقصودة من وجودك هذا؟ إذا كنت ترى ما مُيِّزت به من إدراكٍ وفهم، ومن اختيار وفعل، فهل يمكن أن يكون لك إلا لتدرك قيمتك في الحياة، وتقيم الغاية من وجودك، ولتحققها بفعلك الاختياري الذي يختص بك؟
- ألا ترى أن وجودك القيم هذا له حدود في هذا الكون، مهما طال زمانه وتنوع مكانه؟ هل يمكن أن تكون فرصة عمرك الغالي إلا فرصة ذات هدف؟ وإذا كنت ترى في هذا الوجود المحدود شيئًا من آثار اختياراتك وأفعالك، فهل يمكن أن تتساوى مآلات تلك الأفعال الاختيارية بعد اختلاف حقائقها، واختلاف ثمراتها؟
- إن ما يحل سرّ وجودك بهذا التميز في هذه الدنيا المُيسَّرة لك، هو حقيقة الامتحان المتعلق بالحكمة من وجودك، ووجود الدنيا لك، إنها حقيقة المسئولية الفردية، كما الوجود الفردي، والتميزات الفردية لكل إنسان.
إنَّ ربك الذي خلقك وخلق الكون لك، لن يُحكم كل تفاصيلك وتفاصيل ما حولك، ثم يتركك مُضيَّعًا لا تعلم لماذا أنت هنا؟ فإن كمال الحكمة التي يشهد لها كمال الإحكام لا يمكن أن تضيّع كل ذلك. فَثِقْ أن لك رسالة وهدف من خلال امتحان وجودك المميز في الدنيا، ولهذا أنت هنا.. كن على ثقة من هذا.
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2].
تقدر بكل تأكيد {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2].
- أيُّها الإنسان.. هل أبهرتك القاعة التي أُعِدَّت لتمتحن فيها؟ إن قاعة بحجم السماوات والأرض حقًّا مبهرة، وهي تدل على قيمتك من جهة، وعلى أهمية امتحانك الذي يجري بين جنباتها من جهة أخرى، فهو امتحان في “غاية الوجود الإنساني”.
- لعلك تتلفت حولك فترى الجبال أضخم منك وأقوى، وترى البحار أوسع منك وأعمق، أما السماء بنجومها وكواكبها فتخبرك أن فوقك الكثير والكثير مما لا تحيط به علمًا. ثم ترجع فتنظر إلى نفسك، فتستصغر حجمها وتستقل قيمتها، وتتساءل هل أقدر على الوفاء بامتحان بهذا الحجم؟ هل قدراتي في هذا الكون تعينني على النجاح في امتحان قاعته هي ساحة هذا الكون الفسيح؟
- إنك تقدر بكل تأكيد، ألا ترى ما تحوزه من وسائل الإدراك والتمييز، والتي تفتح لك آفاق المعارف والعلوم في نفسك وفي الكون من حولك؟ كيف تعيش في عصر ثورة المعلومات ثم تظن أنك قد تعجز؟ هل يمكن أن يميزك خالقك بكل هذه القدرات على الإدراك والتمييز، والتي بها تدرك دقائق في الكون لا تُرى بالعين المجردة، وبها تميز التفاصيل الفارقة بين أنواع الكائنات والمواد والطاقات، والخصائص والوظائف، بين ما ينفعك وما يضرك. هل يمكن أن يميزك بذلك ولا يميزك بالقدرة على إدراك هدف وجودك الإنساني الفريد، وعلى تمييز الخير من الشر، والهدى من الضلال، والحق من الباطل، في حياتك التي هي أهم مما سواها لنفسك وفي الكون كله؟ لا يمكن ذلك.
- إنّك تقدر بكل تأكيد، ألا ترى ما تنفرد به من حرية في الاختيار، وقدرة على الفعل، مما جعلك تستخرج كنوز الكون من كل ما يحيط بك، وتتسع دائرة فعلك الإنساني إلى آفاق الدنيا، وهذه آثارك في البر والبحر والجو؟هل يمكن أن يعطيك خالقك العظيم هذه القدرات الهائلة التي تجعلك سيدًا متصرفًا في هذا الكون، ثم لا يعطيك القدرة على تحقيق قيمتك الإنسانية؟
- إنك الآن تسمع وترى ما يحدث في النصف الآخر من الكرة الأرضية..إنك تشاهد أفلاك السماء وتصورها، كما تشاهد قيعان المحيطات وتصورها أيضًا، فكيف لا ترى نفسك وقيمة حياتك؟ إنّك تطير في السماء أسرع وأعلى من طيور السماء، وتسبح في الماء أسرع وأمهر من حيتان البحار، فهل تعجز مع كل هذا أن تسير في الأرض كإنسان حرّ، كريم نبيل، كما يليق بكرامتك الإنسانية المميزة والمُهدَّفة، والتي لأجل امتحانها جئت سيدًا وسُخِّرت لك المخلوقات؟
كن على يقين؛ أن ربك الذي وهبك كل مزاياك، وسخر لك كل تلك الكائنات، وأعد لامتحانك قاعة الكون الفسيحة، بشواهدها وآياتها الناطقة، بل بشواهدك أنت والآيات التي في نفسك، كن على يقين أنه أعطاك من القدرة على تمييز الحق واختياره، والعمل به ونصرته، ما يؤهلك لتحقيق كرامتك، وتكميل مواهبك، بالنجاح في امتحان الحياة، المُعَدّ لك أنت خصيصًا، والذي تحقق من خلاله غاية وجودك الإنساني المميز.
{نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2].
من الإنسان الخارق؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [سورة الحج: 73-74].
- أيُّها الإنسان.. أنت الآن كبير عاقل قوي، تملك الدنيا، وتتصرف في الحياة. إنّك تعيش لحظة، ربما تتوهم أنَّ الزمان سيقف عندها، فتبقى ذلك الإنسان الذكي القوي، الذي يستثمر خيرات الكون، ويستمتع بمباهج الحياة.
- لعلك تعيش مرحلة “الإنسان الخارق” الذي غلب جوارح الطير، وقهر كواسر الوحش، واستخرج كنوز البر والبحر. تكيِّف الهواء، وتصعد إلى الفضاء، تتحصن من الأمراض، وتكتشف أنواع العلاج، تخترع وتصنع أنواع الأجهزة التي تخدمك، وتزداد رفاهيتك يومًا بعد يوم، فهل أنت حقًّا “إنسان خارق”؟
- إنّ سرّ السؤال، هو أن الإنسان يعيش في أسر اللحظة الحالية، وينسى ماضيه الصغير الضعيف، وقبل ذلك عندما لم تكن (شيئًا مذكورًا). كما يغفل عن مستقبله، مستقبل الضعف والموت، ومغادرة الدنيا، وترك كل ما فيها، مما يملأ نفس الإنسان ويشغله اليوم.
- لكن سرّ الجواب، هو في نفس اللحظة الحالية، فيك أنت يا إنسان، وفي الكون المحيط بك. فإنّك مع كل قوتك، وكل تسلطك الكبير على الكون من حولك، مع كل ذلك، فإنّ فيك آيات كونك عبدًا مخلوقًا، بضعف المخلوق، وحاجة المخلوق، الملازميْن له، والمفرِّقين بينه وبين الرب الخالق بكمال قوته وغناه، الملازميْن له.
- إنّك تجوع إن لم تأكل، وتحتاج إلى الطعام، وتعطش إن لم تشرب، وتحتاج إلى الشراب، وتؤذيك الآفات فتحتاج إلى ما يحميك ويداويك، ويؤلمك الحر والبرد، فتحتاج إلى ما يدفع عنك كلًّا منهما، بل إنك تخاف من المخاطر والأعداء، فتحتاج إلى ما يدفع عنك وينجيك. كل ذلك، وما يشابهه ببساطة.. لأنّك إنسان.
- وإنّك مع تسخير الكون الهائل لك، وتسلطك على كثيرٍ من مواده وطاقاته، إلّا أنك تصطدم بصخرة العجز عن خلق كائن حي واحد صغير، ولو كان ذبابة يحتقرها الإنسان. إنك تقدر على أن تتقي دخولها عليك، وتقدر على أن تطردها إذا دخلت عندك، بل إنك تقدر على أن تقتلها، فهي كائن صغير ضعيف مؤذٍ، لكنك مع كل هذا لا تقدر على أن تخلق ذبابة صغيرة واحدة، لا أنت ولا جميع البشر الموجودين بكل علومهم وقواهم.
- بل وأعجب من هذا، أن هذه الذبابة المُحتقَرة يمكنها أن تسلبك وأنت الإنسان العظيم، بعض طعامك الذي تحبه وتملكه. ثم يظهر عجزك ثانية، حين لا تقدر على أن تسترد ما سلبته منك رغمًا عنك تلك الذبابة. وكم في العوالم من مخلوق صغير، حتى إنه ربما لا يُرى بالعيون، لكنه على صغره وضعفه، يظهر عجزك أيُّها الإنسان الخارق؟
فإذا عرفت نفسك بالضعف، فاعرف ربك بالقوة، وإذا عرفت نفسك بالحاجة، فاعرف ربك بالغنى، وإذا تحققت من أنك عبد مملوك مربوب، على كل كمالاتك ومزاياك، فلتوقن أن ربك هو وحده المنفرد بالكمال والجلال. وأنه كما ميزك وكرّمك، فإنّه قد أبقى فيك وحولك من أسباب العبودية، ما يمنع طغيانك، ويردك إليه، عبدًا معترفًا بربوبيته. فقل: يا رب.
{…ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ …} [الحج:73-74].
أين ستذهب؟ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الإنشقاق:6].
- أيها الإنسان .. ها أنت سائرٌ في الدنيا، حيٌّ بين الأحياء، تتحرك وتتفاعل، تتمنى وتنشغل، تلقى في رحلتك شيئًا من مسرّات الحياة، وتلقى أيضًا شيئًا من آلامها. وهكذا أنت منذ بدأت رحلة حياتك في هذا الكون، وبدأت تدرك نفسك وتشعر بها. وحتى تنتهي الرحلة.
- ما هذا؟ هل ستنتهي رحلتك في هذه الحياة؟ بالتأكيد، ستنتهي. وإلّا فأين أجيال وراء أجيال ممن سبقوك؟ بل ها أنت ترى عددًا ممن حولك، أكبر منك، أو مثلك، أو حتى أصغر منك، ها أنت تراهم وهم يودعون الحياة مضطرين غير مختارين، في لحظة نهاية الرحلة، كما جاؤوها مضطرين غير مختارين، في لحظة بداية الرحلة. وهل أنت إلا واحد من بني جنسكن يسري عليك ما يسري عليهم؟
- لقد عرفت يا إنسان بدايتك، أفلم تدلك البداية على النهاية؟ ولقد عرفت من نفسك ومن الكون المحيط بك قيمتك، أفلم تدلك تلك القيمة على الغاية التي يكمل بها تحقيق الحكمة من وجودك وقيمتك؟
- إنك بعد أن ميّزك خالقك بروحك هذه، بأفكارك ومعارفك وتساؤلاتك، بمشاعرك وانفعالاتك واختياراتك، بعد أن ميزك بإعداد الكون الفسيح ساحة لامتحانك، وسخر لك فيها أنواع المخلوقات، أتراه يفعل بك ولك كل هذا، ليكون مصيرك الفناء؟ إنه من المستحيل، يا ابن التراب، أن تكون نهايتك في هذا التراب. إنك أغلى وأعلى، فأنت لم تُخلَق للفناء، لكنك خُلقت للخلود.
- هل تظن أنك بعد أن اخترت العدل، واختار غيرك الظلم. بعد أن اخترت الفضيلة، واختار غيرك الرذيلة. بعد أن اخترت الإحسان، واختار غيرك الطغيان. بعد أن اخترت الخير، واختار غيرك الشر. هل تظن أنك وغيرك ستستويان؟ هل تظن أنكما ستلتقيان في مصير فناءٍ أخيرٍ واحد؟ هل تظن أن النهاية ستكون لا شيء؟ إنه من المستحيل، بعد أن رأيت الحق في خلقك وتدبيرك، وخلق الكون حولك وتسخيره، بعد أن رأيت دلائل العلم والقدرة والإرادة والحكمة، بل ودلائل العدل والجمال والكرم والرحمة، من المستحيل أن يكون وجودك المتميز في الكون الفسيح، باطلًا بلا قيمة ولا جزاء.
- إن الجواب عن هذا السؤال المصيري، الذي ارتبط وجوده بوجودك الإنساني الفريد، مفتاحه في كلمتين، إنهما “الخلود والجزاء”. إن الخلود هو الامتداد اللازم لتميزك الذي يملأ وجدانك، وتنعكس براهينه على صفحة الحياة والأكوان. وإن الجزاء هو لازم الحق الذي قام به كل الوجود، على عدل يبدأ في الدنيا، لكنه لا يتم ويُستوفى في رحلتك القصيرة فيها، فلا بد من آخرة تكون فيها توفية الجزاء بموازين العدل الربانية. وإن الجزاء هو لازم الحق الذي قام به كل الوجود، لأجل الحكمة الغائية، التي تُختبَر في الدنيا حولها، ويُوَفَّى جزاؤك في الآخرة عليها.
كن على يقين من أن اختياراتك في رحلة عمرك هذه، المحفوفة باضطراريّ الولادة والوفاة، إنها تكتب لك النهاية الحقيقية، التي تسير نحوها، وهي الخلود في الجزاء. إن ربك الذي خلقك وكرّمك ابتداءً، لا بد أن يعيدك إليه انتهاءً ليسألك ويجازيك. إننا سوف نلقاه، ونلتقي جميعًا بين يديه.
{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الإنشقاق:6].
ماذا تظن؟ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [سورة فصلت: 22-23].
- أيها الإنسان.. هل تعلم أنك لا تعيش محفوفًا بعوالم الدنيا، وفقط؟ فأنت تعيش أكثر في مشاعرك وأفكارك، وربما في أحلامك وأوهامك. هل تريد دليلًا على ذلك؟ .. انظر إلى نفسك، تفكّر في حياتك، تأمل في أعمالك. نعم، إنها نفسك وحياتك وأعمالك!
- كم من خواطر السوء تجول في نفسك؟ وكم من عملٍ تَلفَّتَّ قبل أن تعمله؟ وأنت تحسب أنك تعمله في الخفاء؟ كم من ظلامٍ ظننت أنه يسترك؟ وكم من خلوةٍ توهمت أنك فيها آمن من اطلاع غيرك عليك؟ ألا تعيش في وهم أن الله خالقك لا ينظر في تلك اللحظات إليك؟ ألا تعيش في وهم أن تمر ولو بعض أعمالك فلا يحصيها بكمال علمه، عليك؟
- أم أنك غرتك أوهام قوتك، التي وهبها إليك، فظننت ألّن يقدر عليك؟ أليس الذي أعطاك كل هذه القدرات، هو أولى بالقدرة عليك؟ أليس الذي سخّر لك كل مخلوقات الكون هذه، بل جعلك مُحاطًا بخلقٍ أكبر منك، سماوات وبحار وجبال، يقدر عليك وأنت في قبضته؟ لكنك مع ذلك تتوهم، أن تفلت من كمال قدرته.
- اصدُق مع نفسك يا إنسان، ألا تسير تبعًا لشهواتك، وأنت تتوهم أنك ستلقى جزاء المحسنين؟ ألا ترتكب المظالم والآثام، ثم أنت تحلم أن يعاملك الله كما يعامل المتقين المطيعين؟ ألا تستسلم لتلك الأوهام والأحلام، حين تريد أن تقدم على فعل حرام؟ مع أنك موقن بالجزاء، ومع أنك غير جاهلٍ بكمال عدل ملك الملوك –سبحانه-، لكنك تميل مع هواك.
- هل تنكر أنك مغرور بإمهال ربك لك؟ فكم قد أذنبت وسَترَك، وتجاوزت فأخّر العقوبة عنك! لقد ساء ظنك بربك، حين لم تُحسن فهم إمهاله، وحين توهمت أن ما فات قد فات، وأنه ليس هناك جزاء آت. فإن الكريم الحليم يمهل الجاني، لعله يراجع نفسه، ويستحيي من كرم ربه. أمّا غرور النفس بسبب الإمهال وأوهام الإفلات بالجرم إلى الأبد، فإنما هي الأحلام التي تغذيها الأهواء.
- إن الأوهام ليست مقنّعة، لكن يكفي أنها غطاء لتمرير الأهواء، هذا كافٍ لكي تقبلها نفس الإنسان. هل هذا خداع من الإنسان لنفسه. يمكنك أن تقول هذا. لكن الإنسان مهما خادع نفسه، فلا بد أن يقف في لحظات أمام الحقيقة، كما هي الحقيقة.
إن سوء الظن بالله، أصل لسوء العمل من الإنسان. وإنّما يقوم سوء الظن على أوهام، تغالط بها النفس ما توقن به من كمال العلم الرباني، وكمال القدرة الربانية، وكمال العدل الرباني، وكمال الحكمة الربانية. فما ظنك برب العالمين، حين تلقاه، وأنت لم تحسن معاملته، وقد ظننت به ما لا يليق بكماله، بعد أن عرفته حق معرفته؟
{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [سورة فصلت: 22-23].
لن يتخلى عنك {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3].
- أيها الإنسان.. أخاطب فيك أشواق الإيمان، وطموحات السُّمُوّ والكمال. أخاطب فطرتك التي تميّز الحق وتحبه، ولا تجد نفسها ولا سعادتها إلا به. هل تستصعب طريق الارتقاء؟ هل تخشى من ضعف نفسك؟ هل تخاف من عقبات الطريق وعداوة الخصوم؟ لا تَحملَنَّ همّ شيءٍ من ذلك.
- فإن ربك الذي فطرك على محبة الخير والكمال، وعلى الاستعداد للتضحية في سبيل الحق، لن يتخلى عنك، وأنت في طريقك إليه. أليس هو الذي خلقك؟ فهو يهديك. أليس هو الذي أهّلك للكمال، وبث فيك أشواق الإيمان؟ فهو يتولاك. فيخرجك من الظلمات إلى النور. أليس هو الأعلم بضعفك؟ فهو أرحم وأولى من يسترك، ويغفر ذنبك، ويجبر كسرك. إنّه ربك الله، الودود الكريم.
- لقد كنت في العدم، فأخرجك إلى الوجود. ثم أزاح عن قلبك رماد الغفلة، وعن عينيك حجب العمى، فتساءلت وأبصرت الحقائق، بأعظم دلائلها وآياتها في الوجود. ولا يزال يقلّب عليك أقداره، بين نعمةٍ تجذبك لحبّه وشكره، ومصيبة تردُّك إليه رغبًا ورهبًا، إذ لا ملجأ ولا منجى لك منه إلا إليه. وأنت أحوج شيء إليه في كل حال. فهل تراه قد تركك؟
- ألم تنتبه أنه هو على غناه عنك وعن جميع الخلق، قد خصّك بخطاب أرسله إليك، فهل تدبرت خطابه إليك؟ وقد حَمَّل كتابه ذلك لرسول، هو أفضل الناس عنده -صلَّى الله عليهِ وسلَّم-، فاجتهد في إيصاله وشرحه لك، وتطبيقه ليكون قدوة لك في طلب الكمال الإنساني، بأعلى رتب السلوك الإيماني. فهل تأملت شأن رسوله إليك؟
- أليس هو الذي يحب توبتك أعظم الحب، ولو اقترفت ما اقترفت من الذنب؟ أليس هو الذي يتنزل لأجلك في ثلث الليل الآخر، يحب أن ترفع حاجتك إليه؟ ألا يكفيك أنه يثيبك على ما تقدم من خير، ولو كان نية مجردة لم يتبعها عمل، ويزيدك الثواب أضعافًا مضاعفة إذا قدمت العمل؟ هل نسيت أنه يتقرب إليك أكثر مما تتقرب أنت إليه؟ فتُب وانوِ، واعمل وتقرَّب، تنل فوق ما تتمنى، ممن ليس كمثله شيء.
- لقد وعدك الله، أنك إن عملت متقيًا لله، تحسن الظن بكرمه وعونه وجميل عطائه في الدنيا والآخرة، أن يفتح لك أبواب المزيد من الخير والقرب، وأن يسهل لك الدخول عليه، من حيث تحتسب، ومن حيث لا تحتسب. فهو عند حسن ظنك به، وهو معك ما ذكرته، بل هو أقرب إليك من كل شيءٍ.
- إنّ ربك الذي قلبك وقلوب جميع بني آدم بين أصبعين من أصابعه، هو الذي وعدك أن يثبتك على الإيمان، بقدر ما تقدم من حب للإيمان وحرص على الإيمان وعمل بالإيمان. أن يثبتك هنا في دنياك رغم الفتن، وأن يثبتك في لحظة مغادرة الدنيا واستقبال الآخرة رغم الشدة، وأن يثبتك هناك في قبرك وآخرتك رغم الأهوال.
كن مطمئنًّا، فأنت تعامل ربك، الذي لا يعاملك أحد مثل معاملته لك، رحمةً ولطفًا وإحسانًا. لا عون إلا من جهته، ولا عفو إلا من فضله. لا سعادة في الدنيا إلا بقربه وحبه وطاعته، إذ لا سعادة إلا عنده، ولا تكمل السعادة في الآخرة إلا بالنظر إلى وجهه في جنته، وهو الذي طالما تولاك برعايته، طوال رحلتك إليه. فكن مطمئنًّا، إن ربك الذي بدأ وجودك، وجعل نهايتك بين يديه، لن يتخلّى عنك.
{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3].
التعليقات