الوحي والعقل

قل: هل يستوي الأعمى والبصير؟ أفلا تتفكرون؟

ثم إن اتباع الوحي وحده هداية وبصر، والمتروك بغير هذا الهادي متروك أعمى. هذا ما تقرره هذه الآية في وضوح وصرامة.. فما شأن العقل البشري في هذا المجال؟

سؤال جوابه في التصور الإسلامي واضح بسيط.. إن هذا العقل الذي وهبه الله للإنسان قادر على تلقي ذلك الوحي، وإدراك مدلولاته.. وهذه وظيفته.. ثم هذه هي فرصته في النور والهداية; وفي الانضباط بهذا الضابط الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله; وجعل التجارب والتقلبات في “الأشياء ” وفي “المادة ” وفي “الأجهزة ” وفي “الآلات “.. وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه. والخسارة في النهاية مواد وأشياء. لا أنفس وأرواح!

فأما حين يستقل هذا العقل البشري بنفسه بعيدا عن الوحي، فإنه يتعرض حينئذ للضلال والانحراف، وسوء الرؤية، ونقص الرؤية، وسوء التقدير، وسوء التدبير.

يتعرض لهذا كله بسبب طبيعة تركيبه ذاتها في رؤية الوجود أجزاء لا كلا واحدا. تجربة بعد تجربة، وحادثة بعد حادثة، وصورة بعد صورة.. حيث يتعذر عليه أن يرى الوجود جملة، ليقيم على أساس هذه الرؤية الكاملة أحكاما، ويضع على أساسها نظاما، ملحوظا فيه الشمول والتوازن.. ومن ثم يظل – حين ينعزل عن منهج الله وهداه – يرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويبدل النظام، ويضطرب بين الفعل وردود الفعل، ويتخبط من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال.. وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، وأجهزة إنسانية كريمة.. ولو اتبع الوحي لكفى البشر هذا الشر كله; وجعل التجارب والتقلبات في “الأشياء ” وفي “المادة ” وفي “الأجهزة ” وفي “الآلات “.. وهي مجاله الطبيعي الذي يمكن أن يستقل فيه. والخسارة في النهاية مواد وأشياء. لا أنفس وأرواح!

ويتعرض لهذا كله – بعد طبيعة تركيبه – بسبب ما ركب في الكيان البشري من شهوات وأهواء ونزعات، لا بد لها من ضابط، يضمن أن تؤدي وظائفها في استمرار حياة البشرية وارتقائها، ولا تتعدى هذا الحد المأمون فتؤدي إلى تدمير الحياة أو انتكاسها! وهذا الضابط لا يمكن أن يكون هو العقل البشري وحده; فلا بد لهذا العقل الذي يضطرب تحت ضغط الأهواء والشهوات والنزعات – وهي شتى – من ضابط آخر يضبطه هو ذاته; ويحرسه بعد أن يضبطه من الخلل أيضا، ويرجع إليه هذا العقل بكل تجربة، وكل حكم – في مجال الحياة البشرية – ليقوم به تجربته وحكمه، وليضبط به اتجاهه وحركته.

والذين يزعمون للعقل البشري درجة من الأصالة في الصواب كدرجة الوحي، باعتبار أن كليهما – العقل والوحي – من صنع الله فلا بد أن يتطابقا.. هؤلاء إنما يستندون إلى تقريرات عن قيمة العقل قال بها بعض الفلاسفة من البشر، ولم يقل بها الله سبحانه!

فالتفكر مطلوب، والحض عليه منهج قرآني; ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي، الذي يمضي معه مبصرا في النور; لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى، بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير.

والذين يرون أن هذا العقل يغني عن الوحي – حتى عند فرد واحد من البشر مهما بلغ عقله من الكبر – إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله.. فالله قد جعل حجته على الناس هي الوحي والرسالة، ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري، ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد والإيمان به. لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل، وأن الفطرة وحدها تنحرف. وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة، إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي، وهو النور والبصيرة.

والذين يزعمون أن الفلسفة تغني العقل عن الدين أو أن العلم – وهو من منتجات العقل – يغني البشرية عن هدى الله; إنما يقولون قولا لا سند له من الحقيقة ولا من الواقع كذلك.. فالواقع يشهد أن الحياة البشرية التي قامت أنظمتها على المذاهب الفلسفية أو على العلم، هي أبأس حياة يشقى فيها “الإنسان ” مهما فتحت عليه أبواب كل شيء; ومهما تضاعف الإنتاج والإيراد; ومهما تيسرت أسباب الحياة ووسائل الراحة فيها على أوسع نطاق.. وليس مقابل هذا أن تقوم الحياة على الجهل والتلقائية! فالذين يضعون المسألة هكذا مغرضون! فإن الإسلام منهج حياة يكفل للعقل البشري الضمانات التي تقيه عيوب تركيبه الذاتي، وعيوب الضغوط التي تقع عليه من الأهواء والشهوات والنزعات. ثم يقيم له الأسس، ويضع له القواعد، التي تكفل استقامته في انطلاقه للعلم والمعرفة والتجربة، كما تكفل له استقامة الحياة الواقعية التي يعيش في ظلها – وفق شريعة الله – فلا يضغط عليه الواقع لينحرف بتصوراته ومناهجه كذلك! والعقل بمصاحبة وحي الله وهداه بصير، وبترك وحي الله وهداه أعمى، واقتران الحديث عن تلقي الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الوحي وحده، بالإشارة إلى العمى والبصر، بالسؤال التحضيضي على التفكير: إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل: هل يستوي الأعمى والبصير: أفلا تتفكرون؟.

اقتران الإشارات وتتابعها على هذا النحو في السياق، أمر ذو دلالة في التعبير القرآني.. فالتفكر مطلوب، والحض عليه منهج قرآني; ولكنه التفكر المضبوط بضابط الوحي، الذي يمضي معه مبصرا في النور; لا مطلق التفكر الذي يخبط في الظلام أعمى، بلا دليل ولا هدى ولا كتاب منير.

والعقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق، إنما يتحرك في مجال واسع جدا.. يتحرك في مجال هو هذا الوجود كله، الذي يحتوي عالم الشهادة وعالم الغيب أيضا; كما يحتوي أغوار النفس ومجالي الأحداث، ومجالات الحياة جميعا.. فالوحي لا يكف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج، وسوء الرؤية والتواء الأهواء والشهوات! وبعد ذلك يدفعه إلى الحركة والنشاط دفعا. فهذه الأداة العظيمة التي وهبها الله للإنسان.. العقل.. إنما وهبها له لتعمل وتنشط في حراسة الوحي والهدى الرباني.. فلا تضل إذن ولا تطغى..

ملاحظة: المقال منقول من كتاب “في ظلال القرآن” سورة الأنعام.

التعليقات