قدسية العسكر ودور أفلام السينما فيها

لم يأتِ تقديس بعض المصريين للعسكر من فراغ، بل إنه نتاج عمليات مُعَقَدَّة من تعديلات على العقلية الجمعية للمصريين، فقد كانت العسكرية المصبوغة بالجهاد مقدسة عند المصري، ولم يكن يحتاج سوى لخطبة عن الجهاد إذا أردت أن ترغبه في التطوع العسكري لمواجهة العدو، فتجد منه بسالة وإقدام.

بعد انقلاب يوليو 1952 لم تكن الصورة قد تحسنت كثيرا، فأراد العسكر أن يتم (تحريك) هذا الشعور لتهيئة الرأي العام بقبول حكم العسكر..

ومع ظهور العسكر كطبقة حاكمة تتمحض فيها مؤهلات الحاكم كعسكري، وعسكري فقط، بظهور دولة المماليك، بالرغم من جهودهم الكبيرة لخدمة الإسلام، ثم العثمانيون، وما فعلوه من خطأ تاريخي في تفويض المماليك في حكم مصر على المستوى الداخلي، ثم تأسيس الجيش المصري الحديث في عهد محمد علي، والذي (ألزم المصريين) بالجندية، وتم فرض ذلك على المصري، وعلى أولاده، دون مراعاة للجانب الديني أو الشرعي، وذلك بالترغيب في العمل، مراعاة فكرة من يعول أسرته، فتم جلب المصري بشكل مزري للدخول في الجندية رغما عنه، بل إن الأمر كان يصل إلى القبض على المطلوب للتجنيد من قريته، وحمله قسرا لمقر الخدمة.

أدى ذلك وغيره إلى حدوث نفرة بين المواطن العادي والدخول في الجيش، واعتبر ذلك أكثر المصريين تكليفا بالشاق العسر، سيما بعد تغيير عقيدة الجيش المصري على يد سليمان باشا الفرنساوي الذي عهد إليه تأسيس الجيش، واقتباسه الكثير من النظم الغربية في الأعمال النظامية للجيش المصري.

وبعد انقلاب يوليو 1952 لم تكن الصورة قد تحسنت كثيرا، فأراد العسكر أن يتم (تحريك) هذا الشعور لتهيئة الرأي العام بقبول حكم العسكر، سيما أن مؤرخي الثورة وكاتبي المذكرات في هذه الفترة من مجلس قيادة الثورة القريبين منهم يتفقون على أنه لم يكن من المتفق عليه أن يقوم العسكر بالانفراد بالحكم، إلا ما أخفاه عبد الناصر، وما دار من مناقشات واتفاقات ثنائية بين بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة.

فلم يظهر فيها أي ضابط بصورة قبيحة، بل إن الشاويش عطية (رياض القصبجي) حتى في أكثر المشاهد إيذاءا لإسماعيل ياسين لم يكن يثير عند الجماهير بغضا للشاويش بل على العكس من ذلك.

فبدأت سلاسل فنية لم تكن تخاطب العقل مباشرة، فلم يكن مناسبا أن يتم (زحزحة) المصري عن فكره القديم بالإقناع، سيما مع تدني مستواه الثقافي، فتم ذلك في إطار كوميدي غير مباشر، من ممثل كوميدي محبوب، فظهرت سلاسل إسماعيل ياسين في الجيش (1955م)، في البوليس (1956م)، في البحرية (1957م)، في الطيران (1959م)، في البوليس السري (1959م)، فكانت هذه المحطة تخلط الجد بالهزل، وتجذب طائفة كبرى من المشاهدين، ومن مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية، لكنها في ثنايها لم تهمل بعض الرسائل المراد إيصالها إلى المشاهد بطريقة غير مباشرة.

فلم يظهر فيها أي ضابط بصورة قبيحة، بل إن الشاويش عطية (رياض القصبجي) حتى في أكثر المشاهد إيذاءا لإسماعيل ياسين لم يكن يثير عند الجماهير بغضا للشاويش بل على العكس من ذلك.

فضلا عن ظهوره في مواطن أخرى بالقلب الطيب، وهو ما أرادوا تأكيده بالرغم من ملامحه الغليظة، ومعاملته الخشنة، فيقف بجوار اسماعيل ياسين عندما مرض بمرض يرجعه إلى طفولته، ويقوم بإطعامه بنفسه، ويدخل في معركة مع رجال (الزفر – محمود المليجي) انتصارا لياسين، فضلا عن ظهور اصطاف التمثيل العسكري بصورة الحزم والطيبة في نفس الوقت.

وتأتي مرحلة أخرى من مراحل (التحريك)، وهي مرحلة الأدلجة العقلية لدور العسكر، مع استمرار الطريقة الأولى التي أثبتت نجاعتها، فيظهر فيلم (رد قلبي) لإحسان عبد القدوس..

وتأتي مرحلة أخرى من مراحل (التحريك)، وهي مرحلة الأدلجة العقلية لدور العسكر، مع استمرار الطريقة الأولى التي أثبتت نجاعتها، فيظهر فيلم (رد قلبي) لإحسان عبد القدوس، وإخراج عز الدين ذو الفقار سنة (1957م)، فيظهر ولدا الفلاح الفقير الطيب، والذي يمثل الشعب المصري، فيدخل أحدهما البوليس، ويدخل الآخر الحربية، فيصبح لديه ولدان من العسكر (جيش)، و(شرطة)!! فضلا عن تقديم ضابط الجيش، وإظهاره بالمظهر البطولي أكثر من الشرطي، وهو ما أراده العسكر، كما يظهر الضابط الوطني الكبير كمال ياسين في المشهد الشهير بكسر كوب الماء بيده عند إصابة حسين رياض بالشلل، إنها مزاوجة بين العسكرية، لكن لا على أساس المساواة، وإنما التفوق العسكري بعامة، وتفوق الجيش بخاصة.

ولم تعدم محطات أخرى من ظهور (مشرف) للضابط المصري، حتى وإن لم يكن موظفا توظيفا على الخط الدرامي كبطل، لكنه مؤثر وملفت في نفس الوقت، فبعد القبض على أحمد (عبد الحليم) بعد تناوله للخمور من غير أن يكون معه ثمنها يقتاده رجال الكباريه إلى القسم، فيقابل ضبط الشرطة (الطيب) زين العشماوي، الذي يقوم بإعطاء أحمد درس الحياة، أن بلدنا لم تعد تنظر للأنساب أو الأصول، بلدنا اتغيرت يا أحمد!! ويمثل له بنفسه، ويعطيه من ماله الخاص من أول راتب، ليبدأ حياة جديدة كمهندس، ويتسبب ضابط الشرطة (الطيب) في إفاقة أحمد، ورجوعه إلى صوابه…

لم تكن تلك المحطات إلا نماذج لوضع صورة مقدسة للعسكرية المصرية جيشا وشرطة، حتى وإن كانت مخالفة للواقع، بل مناقضة له، فلا أحد من أهل مصر ينكر أو يناقش في فساد جهاز الشرطة، لكن الجيش دائما حاول أن يبتعد عن مواطن خدش تلك القدسية، وما زال يحاول…


التعليقات