ليس في الخلق واحدية ولا فراغ.. ولكن تكامل وتدافع

من حقائق الحياة:

مع أن الحياة الإنسانية تمتلئ بالحركة الصاخبة، داخل نفس الإنسان وخارجها، في سياق المحيط الإنساني، وفي سياق المحيط العام بكائناته وأحداثه، إلّا أنّه تحت كل تلك الكثرة من الأشياء والأحداث، توجد خطوط ممتدة من حقائق الحياة السارية فيها.

والإنسان الذي يولد، فتولد معه تساؤلاته عن نفسه وعن كل شيء، كلَّما قلّب نظره في الخلق وازداد تأمُّلًا، ظهر له من حقائق الحياة ما هو أكثر. ومن هذه الحقائق التي يزداد يقيني بها على مرّ الأيام، أنّه “ليس في الخلق واحدية، ولا فراغ.. ولكن تكامل وتدافع“.

إنّما الواحدية للخالق:

فالمخلوق العاقل لا يجاوز قدر نفسه، ولا يتضخَّم غيره من الخلق في نفسه، ويُحسن فهم شبكة العلاقات النافعة ويحرص عليها. فينمو كمخلوقٍ مميَّز، ويشهد لخالقه بالوحدانية.

فإنّ الواحدية قيام بالنفس واستغناء عن الغير، وليس ذلك إلَّا لله -عزَّ وجل- وكل مخلوق صَغُر أم كَبُر، لا يمكن أن يكون ذلك الواحد الغني بنفسه عمّن سواه. فأجزاء الذرَّة يحتاج بعضها إلى بعض، وأجزاء الخلية يحتاج بعضها إلى بعض، وأجزاء الكائن الحي يحتاج بعضها إلى بعض، وأجزاء الأسرة، وأجزاء المجتمع، بل وأجزاء الدولة، وأجزاء العالم. فليس استغناء فرد، أو فئة، أو دولة، إلا وهم كبير، لا بد أن يتحطَّم أمام حقائق الحياة والوجود، في كل هذا الخلق الكثير.

والخلق دائمًا محتاج إلى غيره، مما يتصوره ومما لا يتصوره. فالمخلوق العاقل لا يجاوز قدر نفسه، ولا يتضخَّم غيره من الخلق في نفسه، ويُحسن فهم شبكة العلاقات النافعة ويحرص عليها. فينمو كمخلوقٍ مميَّز، ويشهد لخالقه بالوحدانية.

لا وجود للفراغ:

لأنَّ الفراغ عدم، والعدم غير موجود، فما يوصف في الخلق بالفراغ، إنَّما هو فراغٌ نسبيّ؛ أي: من أشياءٍ دون أشياء، ثم إنَّه يوصَف بهذا على سبيل المقارنة بغيره، لا على سبيل الإطلاق، وهذا سارٍ في عالَميْ المادة والروح، ما دامتا في حيز الخلق الموجود.

ولهذا كان كل فراغ من مادة، تملؤه مادة أخرى موجودة، فتفريغ الكوب من الماء يعني امتلاءه بالهواء، على سبيل المثال. وتفريغ الروح من أفكار ومشاعر، يؤدي إلى أن تنشغل هذه الروح بأفكار ومشاعر أخرى، ولا بد. وتفريغ الواقع العام من قوة معيّنة، يعني تسليم هذا الواقع العام لقوة أخرى أو أكثر من قوة، وهكذا تمضي معادلات الوجود في هذه الحياة.

التكامل البنَّاء:

لقد جعل الله قانون البناء في الخلق، يقوم على قاعدة التكامل المتعاضد. فتُبنَى المُركَّبات بتكامل العناصر، وتُبنَى الكائنات الحية بتكامل الأجهزة والخلايا، وتُبنَى الأسرة بتكامل الأفراد، وتُبنَى المشاريع بتكامل الجهود. وما لم تجتمع له المقوّمات المتكاملة، لم يكمل بناؤه، ولم ينجح في الوصول إلى تمامه.

ولا تنجح المشاريع الكبيرة، بدءًا من الأسرة فما فوقها، إذا قامت على التماثل، لا التكامل. فإن تعزيز التماثل من عوامل هدمها وتفكيكها، بالاستغناء الحقيقي أو الوهمي، بينما يبنيها ويدعمها تعزيز التكامل بين كل مكوناتها.

والافتقار إلى التكامل، من دلائل الحاجة المميزة للخلق. فما من مخلوق، وإن حاز أوصافًا للكمال، إلَّا واحتاج إلى غيره، ولا بد، وإن كان في الجملة حائزًا لقدر أقل من أوصاف الكمال. فالحاجة في المخلوق، تقابل كمال الاستغناء في الخالق.

ثم إنَّه لا يخفى قيام التكامل على مِحورَيْ التشابه والاختلاف، فلا بد للتكامل من أن يقوم على أرضية من التشابه، تسمح باللقاء البنَّاء، كالتشابه بين أزواج الخليقة؛ إذ أنّه ليس كل لقاءٍ وتجميع يَكُونْ منتجًا بناءً ناجحًا، بل من ذلك ما هو سلبيّ، أو حتى هدمِيّ. ولا بد للتكامل أيضًا من أن يقوم على أرضية من الاختلاف، تجعل كُلًّا من المجتمعين يَسُدّ حاجاتٍ يفتقر إليها الباقون. ولا يخفى أنّه ليس كل اختلاف، يتحقق التكامل بتجميع أفراده، ويحقق من خلال ذلك أهدافه.

وعلى كل حال؛ فإنّ إدراك قيمة التكامل، في بناء النجاحات، مما يقلل من الميل الإنساني نحو التماثل، فإنّ التماثل كما يضاعف عناصر القوّة المشتركة، فإنّه يضاعف عناصر الضعف المشتركة أيضًا، بل ولا تنجح المشاريع الكبيرة، بدءًا من الأسرة فما فوقها، إذا قامت على التماثل، لا التكامل. فإن تعزيز التماثل من عوامل هدمها وتفكيكها، بالاستغناء الحقيقي أو الوهمي، بينما يبنيها ويدعمها تعزيز التكامل بين كل مكوناتها.

امتحان التدافع:

كما أنَّ لكل شيءٍ في الخلق ما يُكمِّله، فإن لكل شيء في الخلق ما يدافعه ويمانعه. وقانون الأسباب والنتائج، هو في حقيقته محصّلة لمعادلة التكامل والتدافع، بين أنواع المؤثرات في هذه الحياة.

فافتراض إمكان السير والبناء والنجاح في الخلق، دون تضحية وصبر ومدافعة، هو وهم يمكن أن تتصوره الأذهان، لكنه لا يوجد في واقع الأعيان، المُركَّب والمتشابك.

داخل كل مخلوق تتدافع الأفكار والمشاعر والإرادات، وداخل كل مجموع تتدافع مراكز القوى المُكوِّنة له، بحسب نسب التعارض القائم والمتوقع بينها. والمحصلة الغالبة، تكون هي الحاكمة والظاهرة، لكنّها أبدًا لا تعبر عن كل الحقائق الموجودة وراءها.

ووجود قانون التدافع، بناء على حقائق التعارض، والذي قد ينتج التمانع، هو أيضًا من دلائل الضعف والنقص والحاجة التي تميّز الخلق. فتشهد عليه بحقيقته، التي يمكن أن يتناساها بغفلة، أو يتكبّر عليها بوهم.

هل تثمر البصيرة؟

ومن لم تكن له عزيمة، تحمله على مقتضى البصيرة، كانت بصيرته غُرمًا عليه، لا غُنمًا له، وإن كان غيره قد يكون أسعد منه حظًّا، إذا استثمر تلكم البصيرة المعطلة.

إنَّ ما مرَّ إنَّما هو من مبادئ البصيرة، ويتفاوت الناس فيها كثيرًا، ويتفاوتون في صواب تنزيلها على مواضعها في الواقع. لكن هذا التفاوت، ليس هو المؤثر الأكبر، على حسن إثمار البصيرة، في دنيا النّاس. بل تحتاج البصيرة لتثمر، إلى عزيمة وتوفيق.

فأمّا العزيمة، فهي عنوان التفاوت الأكبر بين البشر، وبها تنقسم الخلائق باختيارها الكسبي بعد انقسامها باختلافها القدري. ومن لم تكن له عزيمة، تحمله على مقتضى البصيرة، كانت بصيرته غُرمًا عليه، لا غُنمًا له، وإن كان غيره قد يكون أسعد منه حظًّا، إذا استثمر تلكم البصيرة المعطلة.

وأمَّا التوفيق، فهو ملاك كل خير، بصيرة الإنسان ناقصة، لا بد أن تفوتها مُدركَات. وكذلك عزيمته، مع وجود أنواع الصوارف والموانع والمعارضات، في داخل الإنسان وخارجه. ولا يملك كل ذلك، ولا يعين على كل نجاح، إلَّا توفيق ربانيّ، يبقي الرب ربًّا، والعبد عبدًا.


التعليقات