دروس من قوله تعالى (قالت الأعراب آمنّا..)
اليوم أريد أن أحادث قلوبنا… فقلوبنا محل الحب الذي يستثير في النفوس البذل والعطاء ، وبه تستطاب الآلام وتهون التضحيات ، فيُحرك الساكن ويسير بالقعيد ويحوَّل بليد الذهن فاقد العزم إلى ألمعيٍ لا يعرف الكلل ولايستطيب القعود عن حبيبه ومولاه ، حتى يقول أحد من حرك الحب جوانب فؤاده (إنها لحياةٌ طويلة حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلة) ، ويصيح الآخر (غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه)..
وقلوبنا محل الخوف الذي يقلب انطلاقة النفس احجاماً ، ويُلجم جموحه عن طوق الرشاد ، وركونه إلى معصيةٍ تبدل حال الحر عبداً ، وتغير حال الرشيد الذكي فلا يكاد يختار إلا خراب داره وفساد حاله ، وكم من شغوفٍ ظمئٍ ظن رِيَّه في سُمِّه فإذا الخوف في قلبه يغير ما كان يرومه من هلاكه نجاةً ، فاتعظ بحال من قيل له: (اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه) فأنجاة ذلك في غارٍ لا تقرضه فيه الشمس.. وقلوبنا محل الإيمان الذي غير الأمم وألان الصخور الصمّ ،فعمد إلى شحيح المال والنفس فأخرج كنوزه لينثرها في الطرقات ، وانطلق به من قيد الجبن إلى فساحة الإقدام وطلب الشهادة ، ليصب دماءه يوم الهيجاء في العرصات ، وأزال عن مرآته الحسود الكدر الذي منعه من رؤية الحياة فأحب المؤمنين وبذل لهم من أطايب ماله ،فوقف التاريخ يسطر على هام الأمم أسماءاً ومفاخراً لم تكن لتُكتب إلا بنور الإيمان.
ولكن قلوباً لم تذق حلاوة الإيمان ولم يرويها غديره ، أعجبها رسمه وجميل اسمه ، وراعها أن يفوتها نسبه وقد غيَّر حال رعاة الغنم إلى قادةً للأمم ، وسمعت قوله باريها (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ) فتحركت تدعي ما لم تحزه وتوهمته مغنماً يأتي بلا مغرم ، ونظرت إلى السابقين بالفضل فتعامت عما قدموه من البذل وما طلقوه من الهزل وظنت السباق في ميدان القول لأ الأفعال.. ونِعمَ ما يطلبه المرء الإيمان… وبئس ما تتعجله الألسنة ادعاء مالم تحزه الأفئدة ، لو تحسست فيها لساءتها ذنوبٌ لا تزال أطلالها شاهدة ، وطاعاتٍ ما زالت عن الشوق إليها قاصرة.. وهكذا كان إيمان الأعراب فسرعان ما نهاهم ربهم وقال لهم الأعلم بحالهم : (لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ، ثم دلهم على الدرب لمن طلب مرضاة الرب فقال (وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) فجزاء أعمالكم ستجدوه في قلوبكم وتذوقوه في غدير إيمانكم والله لن يتِركُم أعمالكم.. فهل تتعلم قلوبنا في درب الإيمان أن التعجل في ادعاء الايمان يقطعها عن المسير وأن الصبر لأوائه يقطع المفاوز ويجوز السدود؟ وهل تعي قلوبنا أن فهم طبيعة الدرب لازمٌ من لوازم السير ؟!
فدرب الإيمان .. دربٌ تعصف فيه أعاصير الابتلاء وتموج بالسائرين فيه فتنٌ الشبهات والشهوات، فتتكسر هممٍ لم تكن مستعدة لما ستلاقيه، وقد يرى المرء زلة قدم الرفيق لو استوحش الغربة لحق به ، وإن ثبتَ مكانه مضى وحده !! ..فطوبى للغرباء. وعلى الدرب محنٌ تزلزل الأجواء ويهتز لها الجنان، قال تعالى: (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا )[الأحزاب:11] ، وحال السالكين يَقِلُ فيها السراء بل (مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) ، وترى تساقطا كأوراق الخريف فتتحرك الأيادي قبل السقوط باحثةً عن معين وقد قل في الدرب الأمين، فلا تجد غير مولاها فـ(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) [إبراهيم:27].. فعندها – وليس قبل ذلك – ترى أهل إيمانٍ ثابتٍ كالجبال – بل قد تزول فلا يزول – وقد تمايزوا عن أهل إيمان باللسان لم ينطق به حال ولم تصدقه أفعال ،فلسان حال الجبال :ـ ( هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) ولسان (الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ).. ولقد علَّم الله الأعراب هذا الدرس فقال لهم (إنما المؤمنون الذين آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، والريب نوعان : نوعٌ يكون شكا لنقص العلم . ونوعٌ يكون اضطراباً في القلب فهو ضد اليقين ..إذ هو اضطرابٌ واليقين يتضمن الطمأنينة والسكون،كما قال البن تيمية رحمه الله. وعلى هذا الدرب أعداءٌ يتناوبون على القلوب فرادى وزرافات ،وقد يتلبس بعضهم بلبوس الحبيب فيهلك ،وقد يٌظهر العداء آخر فيفجر ، وترى الأرض تطرح تحت الأقدام كنوزاً يُعجب العين بريقها فيذهب بالأبصار ، وقد تتكاثر الذئاب على شاردٍ فيمد يده طالباً الهدنة فتتصافح الأيدي لتهوي في دركات السقوط..ولا سبيل لك للنجاة إلا أن تلبس لأمة الحرب وتتحصن بالذكر وتصرف النظر عن لعاعة الدنيا الزائفة ، وعلى قدر جهادك تحوز إيمانك (إنما المؤمنون الذين آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهذا ما علمه الله للأعراب .. والهداية على قدر الجهاد ، على هذا دل كتاب الله فقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، قال ابن القيم فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً، وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد) ،وقال السعدي : (من جاهد الكفار، دل ذلك، على الإيمان التام في القلب، لأن من جاهد غيره على الإسلام، والقيام بشرائعه، فجهاده لنفسه على ذلك، من باب أولى وأحرى؛ ولأن من لم يقو على الجهاد، فإن ذلك، دليل على ضعف إيمانه
فخض غمرات الموت واسمُ إلى العــــلا = لكي تدرك العــــــز الرفيع الدائم
فلا خيـر في نفــس تخـاف من الردى = ولا همـة تصـــــبو إلى لــوم لائـم
فهذا هو درب الإيمان.. فهل وعت القلوب طبيعة السير فيه ..؟! هل تقبلت حقيقة الإبتلاء وأنه لازمة من لوازمه..؟! وهل فهمت أنه دربٌ لا يُقطع إلا بترك الريب والانتصار على النفس..؟! وهل – بعد ذلك – تثبت القلوب ، أم تهزها الشكوك وتضطرب مما تلاقيه فتسقط؟! وهل ستكمل القلوب السير ،أم تستحب العمى على الهدى بعد أن عاينت لأواء الطريق؟! وهل ترضى أن تبذل لله ما أعطاها إياه، أم تتعلل بأن بيوتها عورةً لتقعد مع القاعدين؟! نعم…. هاهي قلوبٌ آمنت وصدقت وثبتت وسكنت وجاهدت فما هادنت .
ولكن يا ويحها مالي أراها سقطت وما أكملت؟!.. مالي أراها تُضرم النار فتحرق إيمانها ؟! .. مالي أراها تخلط صفو مائها بكدر أوحالها؟! يا ويح نفسي أبعد النصب والتعب ، وبعد البذل والعمل تضيع الجهود وتمحق النتائج … فياويحي ما السبب ؟! .. ما السب؟! طاوعتهم قلوبهم بعد طول المسير – وقد مرّ بهم ما مرّ بهم – أن يدخلها العجب ،ولم ييأس الشيطان أن يُفسد إيمانهم لتُحبط أعمالهم ،فزين لهم طاعاتهم فأعجبتهم ومنُّوا بحسناتهم فاستحالت هباءً منثوراً .. فيا قلبُ ويحي وويحك أي عملٍ أعجبك ؟! أهذا الذي ينتابه النسيان وانشغال البال بالدنايا ؟! أم هذا الذي ما علمت أخلص لمولاك أم جُعل به سخط الناس إذ صُرف لنيل رضاهم ؟! أم لعلك يا قلب تُعجبك ركيعات يقيمك ربك لها ولو شاء لقيل (اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)؟! فيا ويح قومٍ جُهال يمُنون على مدبر أحوالهم ، كما يمن الناس على بعضهم في الدنيا ، فرضي الله عن عمر يستحلف حذيفة – رضي الله عنه – : “أسماني رسول الله في المنافقين” ،ورضي الله عن حذيفة وهو يقول له : “لا ولا أزكي بعدك أحداً أبداً” ، ورضي الله عن عبد الله بن مسعود وهو يقول: “ههنا رجل وَدَّ أنه إذا مات لم يبعث [ يعني نفسه ] ” ، ويقول أيضاً: “لو تعلمون مني ما أعلم من نفسي لحثوتم على رأسي التراب” .. فقد حازوا الإيمان ولم يدعوه فرحمهم ورضي عنهم وأدخلهم الجنة عرفها لهم .. ولقد علّم الله الأعراب هذا فقال لهم تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .. فيا ويح قلوبنا .. أما علمت أن مولاها غنيٌ عن أعمالها قال تعالى (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)، وقال تعالى : (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) ، وقال تعالى ( مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) … أما علمت القلوب أنها ما آمنت إلا بنور الله وما ثبتت إلا بعصمة الله وما زكت إلا بوحي الله، فـهو سبحانه من(حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) فالفضل له سبحانه من قبل ومن بعد … وماذا تقول القلوب وقد أعجبتها أعمالٌ مُخلَّطة وربها يقول (يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم، يا عبادي! إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً؛ فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقص المخيط إذا أدخل البحر، ياعبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)..؟! فهل وعت قلوبنا حقيقة الإيمان ؟! وأين الذين تعجلوا ادعاء الإيمان؟! أين الذين ظنوا أنفسهم كالسابقين ولم يسيروا سيرهم..؟! أيا قلبي… إياك أن تعجل فالدرب طويل… وإياك أن ترتاب إذ تمر بمزالق الطريق ولو قلّ الرفيق … وإياك أن يُعجبك ما بذلت فتخسر ما قدمت وما أخرت…. أيا قلبي حز الإيمان ولا تدعيه … وتعلم مما علمه ربك للأعراب فإنه درسٌ لكل من دخل الإسلام وأراد أن يحوز الإيمان.. واصبر يا قلبي إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.. وأما موعدنا .. فموعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر
التعليقات