هذه هي الدنيا يختلط فيها الحق بالباطل والخير بالشر اختلاط تجاورٍ وتدافع، داخل كلِّ نفسٍ بشرية، وداخل كل واقعٍ إنسانيٍّ اجتماعيّ سواءٌ أكان ذلك الواقع وحدةً اجتماعيةً مترابطة، أو مجموع وحداتٍ بينها علاقاتٌ متفاوتة، فهذا الوجود المتشابك هو حقيقةٌ من الحقائق الكبرى للحياة الإنسانية.
في ذلكم التدافع المحتوم يتسلّح الحق ببيّناتٍ تشهد له، والخير بأشواق كمالٍ تنحاز إليه، ويتسلّح الباطل بشبهاتٍ تزخرف الباطل وتشوّه الحق، والشر بأهواءٍ تنحرف إليه، ومع تصاعد غبار هذا الصراع، ومع سقوط الضحايا يُلِحُّ السؤال ويتكرر: لماذا قدّر الله وجود الشبهات؟ ولماذا يتأثر بها ناسٌ من الناس؟ ولماذا لم تكن بيّنات الحق على وجهٍ لا يسمح بإيراد شبهةٍ ولو باطلة؟ إلى آخره.
من أجل الإجابة عن هذا السؤال الهام جاءت هذه الكلمات…
إيمانٌ يتحقق بالمجاهدة
مادة الإيمان هي الوحي، فالوحي الذي ينزل من السماء هو رُوح الرُّوح ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى:52] إذ أنّ الإيمان هو سرُّ الحياة الحقيقية ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام:122] فكيف يتحقق الإيمان بالوحي؟
يقول الله -عزَّ وجَل-: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الرعد:17] فأصل الإيمان وحيٌ ينزل من السماء ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد:17] فيحمل كل قلبٍ من الوحي بقدر ما هيَّأه الله له.
إن وجود الباطل المنازع للحق قدرٌ لا بد منه ولا يتحقق الإيمان إلا بمحبة الحق وإيثاره وكراهة الباطل ومجافاته حتى يكون الموت أهون على المؤمن من ظهور شبهات الباطل على لسانه..
والسَّعة ههنا شيءٌ قدريٌّ بحت ﴿فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ [الرعد:17] فعندما يختلط الوحي الربّاني بالقلب الإنساني يثور باطل النفس ويظهر، وهذا الباطل شاملٌ لشهوات النفس وشبهاتها ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ [الرعد:17] كما يجتمع في نار الفرن المعدن الصافي والشوائب الرخيصة.
﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾ [الرعد:17] حين يجتمعان في قلب الإنسان وهما من طبيعتين متضادتين حقٌّ وباطل، فطرةٌ وشهوات، بيّنات وشُبُهات.
إنَّ وجود الوحي في القلب يستدعي إحضار الشيطان لشبهاته المضادة للوحي كما حكّى ربنا تعالى عنه قوله: ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الأعراف:16] ولذلك تستدعي صلاة المؤمنين وسوسة الشيطان، فلما قال اليهود للمسلمين: إنهم –أي: اليهود- لا يُوسوَس لهم في صلاتهم. واشتكى من ذلك بعض المسلمين.
قال ابن عباسٍ -رضِيَ الله عنهما-: “صدقوا، ما يفعل الشيطانُ بالبيت الخرب” مصداقًا لحديث رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لما شكى له الصحابة أنّ أحدهم يجد في نفسه ما أن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتحدّث به فقال: «”وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟” قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: “ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ»[1].
ومعناه على وجهين صحيحين:
أولهما: لأن صريح الإيمان قد وُجِد بالقلب فإن الشيطان لا بد أن يلقي من الشبهات ما يحاول أن ينازع به بيّنات الإيمان، وهذا هو المعنى الذي قررناه فيما سبق.
ثانيهما: إن صريح الإيمان هو كراهتكم لما يلقيه الشيطان من الباطل في نفوسكم، فإن وجود الباطل المنازع للحق قدرٌ لا بد منه ولا يتحقق الإيمان إلا بمحبة الحق وإيثاره وكراهة الباطل ومجافاته حتى يكون الموت أهون على المؤمن من ظهور شبهات الباطل على لسانه، وهذه حقيقة المجاهدة التي لا يتحقق الإيمان إلا بها، وهو المعنى الذي سنقرره فيما يأتي بإذن الله.
إنَّ الإيمان الحقّ يقوم على اليقين والجهاد ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات:15].
ولا يترسّخ اليقين في القلب إلا بالتضحية بالشهوات في ذات الله تعالى ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران:92] فإذا انحاز القلب إلى الحق ولزم بيناته وآثره على الباطل وجاهد شبهاته تحقق الإيمان ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد:17] في مدافعة الإيمان ببيناته للباطل بشبهاته عبر جهادٍ في قلب الإنسان.
إنَّ نفس الإنسان الذي قال عنه خالقه سبحانه: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10] بما فيها من بواعث الخير تمييزًا ومحبةً، وما فيها من نوازع الشر زخرفةً وهوًى لا يتحقق إيمانها بالوحي إلا إذا اختارته وآثرته على ما سواه من الشهوات وجاهدت ببيناته ما يضادها من شبهاتٍ تثور من طين النفس ومن وسوسة الشياطين.
هذه المجاهدة التي عُبِّر عنها في المثل المائيّ بثوران الغثاء وعلوه وبدفع الماء له حتى يزول، وعُبِّر عنها في المثل الناري بنار الامتحان التي كُلما زادت كلّما صفا المعدن الأصيل الغالي وتخلّص من الشوائب الرخيصة المختلطة به، بدونها لا يستقر ماء الوحي الذي ينفع في القلب، ولا يصفو معدن الإيمان في النفس، وهذا شيءٌ من حكمة وجود الشبهات التي يتحقق إيمان القلب فيما يجاهدها في الله الذي يؤثره على ما سواه مصداقًا لآية الرعد.
تمييزٌ يتحقق بإتاحة الفرصة
لقد خلق الله الإنسان بحكمةٍ كونيةٍ عامَّة لا يخرج عنها مُكلَّفٌ من الثَّقليْن في الدنيا وهي الابتلاء ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾ [الإنسان:2] ومن أجل ذلك زوّده بوسائل المعرفة التي تعينه على النجاح في امتحان الحياة هذا ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [الإنسان:2].
في مقابل الأنبياء الذين يبلغون آيات الله ﴿عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ فيلقون الشبهات في مقابل البينات ليُتاح الاغترار بالباطل المقابل للحق ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾.
وأتاح له سبيل الإيمان وأبانه بما يقيم الحُجة ويقطع العُذر ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ [الإنسان:3] ليتميز الناس بعد ذلك إلى أحد اثنين ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان:3].
ذلكم التمييز بين الناس الذي أراده الله تعالى ﴿كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ﴾ [الأعراف:29-30] لا يتحقق بمقتضى العدل الرباني إلَّا إذا كان الإيمان متاحًا وكان الانحراف متاحًا أيضًا؛ إنّ هذه الإتاحة هي الفرصة التي يستثمرها كل إنسان ليختار بحرية انحيازه الذي يتحمل بمقتضاه المسؤولية فيُحاسَب الناس وينقسمون إلى أهل جنةٍ وأهل نار.
من أجل ذلك فكما جعل الله آياته الهادية تصل إلى الخلق عن طريق الملائكة والأنبياء وورثتهم من المؤمنين قال الله -عزَّ وجَل-: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ﴾ [الفرقان:31] أي في مقابل الأنبياء الذين يبلغون آيات الله ﴿عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام:112] فيلقون الشبهات في مقابل البينات ليُتاح الاغترار بالباطل المقابل للحق ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ﴾ [الأنعام:112].
إذ ليس فعلهم خارج القدر الرباني الحاكم للوجود ﴿فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام:112] إذ سيظلون يكذبون ويلبِّسون الحق بالباطل فاتركهم لسوء فعلهم ولسوء مصيرهم فإن لله تعالى حكمة في وجود الدور الذي يؤديه هؤلاء بشبهاتهم ﴿وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام:113] وهكذا يميل منحرف الإرادة إلى ما يلائمه ﴿وَلِيَرْضَوْهُ ﴾ بديلًا عن آيات الحق، ﴿وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ﴾ [الأنعام:113] فيستثمرون هذه الفرصة المتاحة للانحراف مع الشبهات في ظل دعاوى الشبهات.
وهكذا تتحقق حكمة التمييز بين الناس حين ينقسمون في ظل فرصة تتيحها لهم شبهات الباطل التي تنازع براهين الحق في الأرض مصداقًا لآيات الأنعام.
يقينٌ يتحقق بمزيد علم
فإن اليقين علمٌ جازم تطمئن إليه نفس صاحبه، وهو يزداد بزيادة ما يدعو إلى الجزم ويدعم الاطمئنان؛ إذ ليس اليقين وإن سُمِّي يقينًا في رتبةٍ واحدة عند كل واحدٍ من أهله.
يقول الله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ﴾ فالمحكيُّ سُنَّةٌ ماضيةٌ متكررةٌ مع كلِّ مبلغٍّ للوحي ولبيّناته. ﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾ هداية قومه بدعوته وبلاغه ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ أنواع الشبهات التي تلبِس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق صدًّا عن سبيل الله ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ يبطله ويفضحه ويزيل كل قيمةٍ حقيقيةٍ له ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ﴾ سالمةً عن المعارض، كافيةً في الدلالة على الحق مبدِّدةً لكل شبهةٍ مدَّعاة ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحج:52] تكفّل أن ينسخ الشبهات وأن يُحكم الآيات بعلمٍ كامل وحكمةٍ بالغة كما كان صراع الآيات والشبهات مقدَّرًا بعلمه جاريًا وفق حكمته -عزَّ وجَل-.
وقد تبدَّت بعض الحكمة في تعليلين تاليين:
إنَّ دفع المعارضات مما يزيد العلم ويوضح الفهم ويرسّخ اليقين، وهذه الحكمة لا تتحقق إلا بإيراد الشبهات لتتهاوى أمام العلم الصحيح..
الأول: ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ فيظهر ما في قلوبهم من فساد في قبولهم وإقبالهم على شبهاته ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ [الحج:53] وظلمهم علّة فسادهم وبعدهم عن الحق ومجافاتهم له هو النتيجة اللازمة لذلك، وقد سبق الكلام عن حكمة التمييز هذه، لكنها ليست الحكمة الوحيدة.
الثاني: فالتعليل الثاني هو المقصود الجديد هنا ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [الحج:54] فعندما تُورَد الشبهة ثم يبطلها الدليل بمقتضى العلم يزداد العلم بالمسألة وبأدلتها، ويتضاعف اليقين بمصداقيتها فيؤمنوا به إقرارًا وإذعانًا فتخبت له قلوبهم خضوعًا لسلطان الحق واطمئنانًا لقوة اليقين، وانكسارًا لفضل رب العالمين.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج:54] بآياته ابتداءً، وبتقدير الشبهات على ألسنة أعدائه وسطًا، ثم بإبطال الشبهات بالبينات انتهاءً، وهدايته تفضلٌّ منه سبحانه يختار له أهلها ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص:68] بحسب ما يقدمون من الإيمان وأسبابه فهؤلاء يتم عليهم نعمته بكرمه والله واسعٌ عليم مصداقًا لآيات الحجّ.
إنَّ دفع المعارضات مما يزيد العلم ويوضح الفهم ويرسّخ اليقين، وهذه الحكمة لا تتحقق إلا بإيراد الشبهات لتتهاوى أمام العلم الصحيح، وليشهد العلم عن عيان أنّ في بيّنات الوحي إبطالًا لكل شبهة يدّعيها صاحب هوى أو شيطان تصديقًا للوعد الربّاني الكريم ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ﴾ أي: بشبهةٍ يريدونها على بينات الحق ﴿إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان:33] فيكون في البينات ما يحل الإشكال ويرفع الشبهة ويزيد الحق بيانًا مصداقًا لآية الفرقان.
إيمانٌ ينتصر بالحُجَّة
أرسل الله -عزَّ وجَل- للثقلين الرسل ليكونوا رسلًا مبشرين ومنذرين ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:165] ومن أجل إقامة الحُجة وقطع العذر قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [الحديد:25].
فلما ختم الله سبحانه النبوة برسوله محمدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بقي «العُلماءُ ورَثَةُ الأنبيَاء»[2] يبلغون رسالتهم ويظهرون حُجتهم، ويدفعون عن الحق شبهات أهل الانحراف بأصنافهم ليستمر تحقق الوعود الربّانية ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة:21] مع استمرار ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ﴾ [الصف:8] لأن الحقيقة المستقرة ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [الصف:8].
﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ فكلُّ صاحب عقلٍ يميز بين بيان العلماء للحق وبين تلبيس المنحرفين للباطل.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف:9] فالحقُّ منصورٌ بالحُجّة دائمًا لئلا تبطل حُجج الله وبيناته، ومنصورٌ بالقوة في حالٍ دون حال وله العاقبة في المآل.
وقد جعل الله الكتاب ﴿مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [آل عمران:7] فهي واضحة الدلالة بنفسها بها تقوم الحُجّة، وإليها المرجع فيما تحتمل دلالته وجوهًا.
﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران:7] تحتمل دلالتها ما هو مقبول ومردود، جعلها الله ابتلاءا للعباد بما تتيحه من فرصةٍ للانحراف بأنواع الشبهات، فيحصل التمايز بين الناس.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ أي: انحراف إلى الشهوات المحرّمة ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ فيختارون ما يحتمل باطلًا دونما ينفي الباطل، ويقصدون الانحراف المخرج عن الاستقامة، ويتلمّسون الشبهات المضلّة ليدافعوا بها عن فسادهم.
﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ فما استأثر الله بعلمه لا يُعارَض به ما علّمنا إيّاه، بل نكله إليه سبحانه.
﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ المتمكنون فيه بما علمهم الله وورثوه عن رسوله ﴿يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ يعلنون حقيقة الإيمان، وهي الإيمان بالوحي كلِّه وبرد متشابهه إلى محكمه، ويجاهدون ببينات الحق شبهات الباطل.
﴿وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران:7] فكلُّ صاحب عقلٍ يميز بين بيان العلماء للحق وبين تلبيس المنحرفين للباطل.
فقسّم الله -عزَّ وجَل- الناس فيما سبق إلى ثلاثة أصنافٍ كما يلي:
الأول: نصّ على أهم أوصافهم، وهو زيغ القلوب؛ لأنه السبب الأصيل في استجابتهم لدواعي الفتنة، وأشار بوصف مقابلهم بالرسوخ في العلم إلى أنهم ليسوا من أهل التمكّن في العلم، تمنعهم أهواؤهم من ذلك الرسوخ مهما كانوا أذكياء، أو حصلوا من معارف كما ذكر الإمام الشاطبي في الاعتصام “وهؤلاء هم أهل الشبهات الباطلة.
الثاني: نصَّ على أهم أوصافهم وهو الرسوخ في العلم؛ لأنه مدخل وراثتهم للأنبياء في إظهار الحق ودحض الباطل، وبما أظهروه منه قامت حُجّة الله على الخلق، وأشار بوصف مقابلهم بزيغ القلوب إلى أنهم أهل استقامة في مقاصد قلوبهم، وذلك كان سبب نجاتهم في الأصل، لكن ما قاموا بوراثتهم للأنبياء بنصر الحق في الأرض وإظهار حُجته على شبهات الباطل إنما كان بأمرٍ فوق صلاح القصد فقد كان بالرسوخ في العلم.
إن معركة البينات مع الشبهات هي مما يظهر الله به الحق في الأرض وينصره به على الباطل بعد أن تؤدي دورها في قلوب العلماء بزيادة اليقين..
الثالث: ذكرهم في آخر الآية وهم: أولوا الألباب؛ فهؤلاء أصحاب قلوبٍ سليمة ليسوا منحرفين كالصنف الأول، وأصحاب عقولٍ مستقيمة وإن لم يكونوا علماء ربانيين كالصنف الثاني، وهؤلاء هم أهل النجاة بتمييز الحق وإيثاره انتفاعًا بآيات الله وببيان الراسخين في العلم وكراهةً للباطل ولشبهاته التي لم تخدعهم.
إن معركة البينات مع الشبهات هي مما يظهر الله به الحق في الأرض وينصره به على الباطل بعد أن تؤدي دورها في قلوب العلماء بزيادة اليقين، فهنا ميدانٌ أوسع وهدفٌ أكبر وحكمةٌ تعم الخلق وتقيم حُجّة الخالق سبحانه كما في آيات الحج السابقة وآية آل عمران هذه.
باطلٌ يشهد للحق
فإن من يترك بينات الحق ويستبدل بها شبهات الباطل تكشفه ثمرة طريقه كما كشفته من قبل عورات الطريق نفسها، والثمرة أوضح وأفدح، فماذا بعد الحق إلا الضلال! ففي الثمرة ضلال التيه عن سواء السبيل، وفي الثمرة اضطراب الباطل وتناقضاته ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق:5].
إن غالب نفوس البشر لا تكاد تقبل الباطل بكل فجاجته؛ ولذلك تقوم الشبهة بمزج الحق بالباطل ليمرّا جميعًا فيقوم أهل العلم الربّانيون بتخليص الحق من الباطل، ويقبلون الحق صافيًا، ويردّون الباطل صافيًا؛ لأنهم لو ردُّوا الشبهة كلها وهي مركبةٌ من حقٍّ وباطل لكانوا مبطلين في بعض الرد كما كان صاحب الشبهة مبطلًا في بعض القول كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحمه الله-.
ثم إن لوازم الحق حق ما دام التلازم صحيحًا، ولوازم الباطل باطل ما دام التلازم صحيحًا، فإظهار لوازم الشبهة الباطلة مما يظهر بطلانها لمن قد يغتر بزخرفها، واللوازم من أحسن ما تُبطَل به الأقوال الخاطئة وإن كان الناس لا يُؤاخذون باللوازم إلا إذا التزموها.
فكلما تكاثرت الشبهات ثم ظهر بطلانها المرة بعد المرة، وظهر بطلان نتائجها المرة بعد المرة كان ذلك شهادةً للحق الأصيل الثابت بعد أن صارت القسمة ثنائية إما بينات الحق أو شبهات الباطل، والمعركة صفرية فأحدهما حقٌّ منتصر والآخر باطلٌ مهزوم، ولهذا جاء الاحتجاج في الوحي بسوء ثمرة ترك الحق إلى الباطل كما في آية ق.
النهاية ليست هنا
نعم فستبقى الدنيا دار امتحان ومحل صراع، وسيبقى ناسٌ يخدعون غيرهم بعد خداعهم لأنفسهم، وسيبقى أهل أهواءٍ يجدون في شبهاتهم غايتهم، سيبقى كذبٌ ينازع الصدق وباطلٌ يصارع الحق لأنها الدنيا، أما النهاية حقًا فلأجلها كان العرض الأكبر ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾ [النحل:39].
إنه ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطارق:9] إن النهاية حقًّا عندما يدخل أهل الجنة وأهل النار النار، ثم ينادونهم قائلين: ﴿قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)﴾ [الأعراف:44-45].
———————————————————–
[1] صحيح أخرجه مسلم (132) وأبوداود (5111) من حديث أبي هريرة – رضى الله عنه -.
[2] أخرجه أبوداود (3641) والترمذي (2682) وابن ماجة (233) من حديث أبي الدرداء – رضى الله عنه -.
التعليقات