تكونت في اليونان القديمة مدن منفصلة ووحدات إدارية صغيرة لتشكل ما يمكن تسميته بالدولة المدينة، في حين لم ينشأ فيها كيان سياسي كبير إلا بعد غزو المقدونيين لهم (يراجع)، ويعد السر وراء هذا التكوين السياسي والبناء الاجتماعي هو الجغرافيا؛ حيث لعبت السواحل شديدة التعرج ذات التضاريس الوعرة دوراً بارزاً في تمزيق الوحدة السياسية لهذه المنطقة الجغرافية، وكانت مدعاة للروح الانفصالية وللاستعصاء على التوحد.
نتيجة نفوذ وقوة القيادة العسكرية المركزية وطبيعتها، مع الاحتكاك بالأمم الأخرى مالت الكفة لصالح الحكم المركزي الاستبدادي، ونامت الديمقراطية بعدها نومتها الطويلة وانزوت في جاهل النسيان.
وقد أدى بناء الوحدات السياسية الصغيرة إلى تقليص البيئة المعززة للنخب سواء كانت متوجة أو غير متوجة في مقابل دور الجماهير، خاصة أن آليات الإدارة الجماهيرية في المدن الصغيرة متاحة وغير ملجئة للحكم المركزي.
لم يكن للرومان منتج حضاري فكري خاص بهم، لكنهم اقتبسوا الأفكار الفلسفية من اليونان، فاقتبسوا منهم نظام الحكم الديمقراطي الذي لم يتناقض مع طبيعتهم دولتهم الناشئة (مدينة روما)، لكن مع ضغط الامبراطورية من جانب وتزايد الاحتياج للحكم المركزي، أو نتيجة نفوذ وقوة القيادة العسكرية المركزية وطبيعتها، مع الاحتكاك بالأمم الأخرى مالت الكفة لصالح الحكم المركزي الاستبدادي، ونامت الديمقراطية بعدها نومتها الطويلة وانزوت في جاهل النسيان.
وعندما أطل العصر الحديث استجلبت الديمقراطية من جذور التاريخ، غير أنها جاءت في ثياب مطورة لتتناسب مع حكم الدول الكبيرة لا المدن الصغيرة الشبيهة بالمجالس القروية، هذا التطوير جعل من الديمقراطية التمثيلية مزجا بين الحكم الشعبي الجماهيري القاعدي وأنظمة الحكم النخبوية المركزية.
لكن هل يستمر هذا التركيب المزجي تحت وطأة التجربة والزمن، أم يدفعها التجربة والزمان إلى الانفصال؟
سؤال نترك إجابته للتاريخ.
فإن كان اليونان أمة عرفت الحضارة، فهناك أمة أخرى و إذ لم تعرف الحضارة إلا أنها قد قامت، نشاهد تلك الظاهرة في الدولة القبلية للجرمان قبيل العصور الوسطى؛ حيث لم يعرف الجرمان حياة المدن، إنما عاشوا في قرى متناثرة وسط الأضحال والغابات، وكان بين هذه القرى اتصال عبر الأنهار و الممرات التي تتخلل الغابات، وكان التنظيم السياسي وحدته القرية التي كان لها جمعية أو مجلس، ومن مجموعها يتكون وحدات سياسية أكبر حتى تتألف الدولة القبلية ولكل مستوى من هذه المستويات جمعية عمومية سواء على مستوى الدولة أو المقاطعة أو المئة، وعلى رأسهم زعماء منتخبون.
ويكون السر وراء كون المجتمعات الجرمانية الأولى أنها مجتمعات ديمقراطية أنها نشأت في وحدات سياسية صغيرة متناثرة وسط الغابات والأحراش، وما أن كون الجرمان ممالك جديدة على أنقاض الامبراطورية الرومانية الغربية حتى اصطبغت في أغلبها بصبغة الامبراطوريات الملكية.
خاتمة القول أن إن كانت جغرافيا الأنهار والأراضي المنبسطة وما نتج عنها من حياة زراعية اقتصادية واجتماعية على ضفافه هو ما تولد عند أول حكم مركزي عرفه التاريخ (مصر)؛ فإن جغرافيا السواحل المتعرجة ذات التضاريس المتعرجة أيضا هي ما أنتجت عندنا النظام الديمقراطي، وحينما ندرك هذه الحقيقة نخلص إلى أن السياسة وليدة الجغرافيا.
التعليقات