يعيش الإنسان ولا بد في ظل مجتمعٍ بشري بغض النظر عن قلة عدده أو كثرته، بل إن الغالب على الناس أن يكون للواحد منهم مجتمعه الخاص الصغير الأخص به داخل مجتمعه العام الكبير الذي يُضطر للمعيشة فيه.
فكيف تكون العلاقة بين هذه المكونات الثلاثة (الفرد ومجتمعه الخاص ومجتمعه العام) علاقةً صحيَّةً وبنَّاءة؟ ومتى تختل حتى يصل البعض إلى نمط الحياة في الكهوف؟
العلاقات السوية
وبانفتاح الإنسان انفتاحًا متدرجًّا على المجتمع العام يتسع أفقه فيتجاوز محدودية المجتمع الخاص وتزداد خبراته، ويظهر في الأغلب الدور الإيجابي للفرد في الحياة..
إن نقطة اللقاء المركزيّ بين المجتمعين الخاص والعام هي الفرد نفسه، وعلى الفرد يظهر أثر سواء هذه العلاقات أو اختلالها، فالمجتمع الخاص الذي يبدأ بالأسرة أو ما يقوم مقامها هو صاحب التنشئة الأولى والتأثير الأعلى على بدايات الإنسان، ودور هذا المجتمع الخاص الأساسي هو تهيئة الفرد وتأهيله للتفاعل والتأثير الإيجابي مع المجتمع العام، ثم دعمه في ذلك التفاعل والتأثير الإيجابي بقية حياته.
في المراهقة يستبدل الأكثرون مجموعة الرفقاء بالأسرة، وبعد ذلك تتفاوت اختيارات الأفراد لمجتمعاتهم الخاصّة ما بين العائلية والعملية والاجتماعية والفكرية، لكن يبقى لأكثر الأفراد مجتمعاتهم الخاصة التي يأوون إليها فيجدون فيها أنفسهم ويستمدون منها المعونة على إكمال حياتهم مع المجتمع العام.
وبانفتاح الإنسان انفتاحًا متدرجًّا على المجتمع العام يتسع أفقه فيتجاوز محدودية المجتمع الخاص وتزداد خبراته، ويظهر في الأغلب الدور الإيجابي للفرد في الحياة سواءٌ أكان ذلك الدور في المجتمع العام أو كان راجعًا إلى المجتمع الخاص مرةً أخرى بنسبةٍ من النسب.
الخلل والخداع
يأتي الخلل عندما لا يؤهل المجتمع الخاص الفرد لنمو سوي وللانفتاح الإيجابي على المجتمع العام، أو عندما لا يحسن المراهق فمن هو أكبر اختيار مجتمعه الخاص بما يعود عليه بأسوأ الآثار النفسيّة، أو عندما يتعرّض الفرد لصدمة في علاقته بالمجتمع العام ونحو ذلك، وعندها ينسحب الفرد بروحه وعقله تمامًا من المجتمع العام، وإن بقيت فيه بقايا شبح أو أطلال إنسان لا تحمل إلّا القليل من معاني الحياة، ويتصوّر أنّ مجتمعه الخاص المغلق هو كل وكمال الحياة، فيذوب فيه بالكليّة فإذا تلاقى مجموعةٌ من الأفراد داخل مجتمعٌ خاص وهم مختلون من هذا النوع، فإنهم يعيشون في كهفٍ خاصٍّ بهم بأفكار ومشاعر وتحليلات وأوهام وخيالات وأحداث خاصّة بهم.
كما أن نمط الحياة في الكهوف ليس مرضًا مختصًّا بالمجموعات المغلقة فقط، بل قد يكون مرضًا لفردٍ واحد يصنع بخياله مجتمعه الخاص وكهفه المميز، ويعيش فيه أسيرًا لحدود جدرانه وأشخاصه وأفكاره..
ويتصورون بهذا الخداع الذي يمارسونه سويًا على أنفسهم أنهم يفكرون أو يشعرون بقيمةٍ كبيرة مع أنهم في الحقيقة إنّما يستجرّون صدى أوهامهم الذي يتردد دخل كهفهم ويحسبونها أصدافًا جديدة، وإنما يتخيلون صور أوهامهم التي يرسمونها على جدران كهفهم ويحسبونها مشاهد جديدة، ويدّعون اتفاق الناس على ما لم يسمعوا سواه داخل كهفهم المغلق، ويتأملون انشغال الناس بما لا ينشغل بهم أحد خارج كهفهم وهكذا.
كما أن نمط الحياة في الكهوف ليس مرضًا مختصًّا بالمجموعات المغلقة فقط، بل قد يكون مرضًا لفردٍ واحد يصنع بخياله مجتمعه الخاص وكهفه المميز، ويعيش فيه أسيرًا لحدود جدرانه وأشخاصه وأفكاره، وهي حالٌ أشدُّ سوءًا من الأولى وأكثر انغلاقًا وخيالًا.
مفاتيح الحل
ولكل مشكلةٍ حل كما أن لكل داءٍ دواء، فمشكلة الحياة في الكهوف أهم مفاتيح حلّها:
أولًا: الصدمة التي تجبر الفرد على التمييز بين الحقيقة والخيال، وأن أوهامه لا تغير الحقيقة لا فيما يتعلق بالفرد ولا فيما يتعلق بالواقع.
ثانيًا: الأمل الذي يغري الفرد بأن خروجه من أوهامه إلى حقائق الحياة سيمنحه فرصةٌ حقيقية ليكون هو أفضل، وليكون أيضًا ذا أثرٍ أفضل.
ثالثًا: الأمان الذي يبث الطمأنينة في قلب الفرض ويشجعه على التغير بالانفتاح الإيجابي تجاه الواقع، وأن ذلك لا يمثل تهديدًا لذاته، بل نماءً لها.
رابعًا: الدعم الذي يشعره بأنه ليس وحده أمام التجارب الجديدة، ويساعده فعليًّا على تخطي العقبات الطبيعية في مواجهة الحياة الواقعية.
وقد يُخشى أن يضيع العمر كله بالنسبة للبعض، ولا تكون الصدمة إلا عند مغادرة هذه الدنيا وإلقاء النظرة الأخيرة على كشف حساب الحياة فيها.
خامسًا: الخبرة؛ حيث تتدخل الكثير من الخبرات الحقيقية لتزاحم وتحل محل الأوهام التي كانت تملأ ذهن الفرد من قبل.
سادسًا: الممارسة، فإن الانشغالات العملية الحقيقية هي جزءٌ أصيل في حل كثيرٍ من المشكلات، وهذه من ضمنها، فإن الفراغ هو المجال المناسب لتمدد الأوهام، والممارسة العملية النافعة هي الحياة الواقعية.
سابعًا: المصير الذي يجعل الدنيا مرحلةً هامة ومؤثرة على ما بعدها، لكنها ليست كلّ شيءٍ، ولا هي النهاية، فما يفوت هنا لا يفوت في الآخرة، والآخرة هي كمال الحقيقة.
متى تتحطم الكهوف
عالم اليوم مفتوحٌ ومتداخلٌ ومتدافعٌ في آنٍ واحد، وبقدر ما يفرُّ ناسٌ إلى كهوفهم بقدر ما تقتحم الأحداث الصادمة والمتسارعة عليهم تلك الكهوف فتدمرها، وتقلل خياراتهم، فمن لم يبادر ويتحرك بإيجابية إنما يخصم من عمر نفسه.
وقد يُخشى أن يضيع العمر كله بالنسبة للبعض، ولا تكون الصدمة إلا عند مغادرة هذه الدنيا وإلقاء النظرة الأخيرة على كشف حساب الحياة فيها.
إنّ إرادة الفرد أصلٌ في تحطيم الكهوف تحطيمًا إيجابيًّا، وإن الظروف المساعدة توفر فرصًا لا ينبغي تضييعها، وإن التعلق بالله أولًا وآخرًا هو ملاك صلاح الإنسان هذا المخلوق المُكرّم.
التعليقات