نعم.. إن البلاء كلما زاد كان كالنار التي تنفي الخبث شيئا فشيئا، وكلما ازدادت النار خرج الخبث الأدق الأكثر التصاقًا بالمعدن النقي الساذج.. فالبلاء في جانبه المظلم الذي لا يظهر حتى إذا واجه العين الباصرة المفتوحة، فإنها لا ترى منه إلا المحاق، ويؤتي الله من فضله من يتحسس أن المحاق في حقيقته قمر حجبه حركة مَيَسان القمر!
وأيُّ بلاء أعظم من اختفاء النبي صلى الله عليه وسلم من بين ظهراني المؤمنين، ولن أسترسل في بيان فداحة هذه المصيبة، فإنها زلزلة كالغربال الريفي الذي لا يمرر من بين قطعة الحرير إلا الناعم الدقيق، وتقبض على الأجسام الشاذة غير المنتظمة التي كانت ذائبة في الكيان، ويُنسب الجميع إلى المادة الرئيسية، فيقال جوال دقيق، أو قمح، دون أن يتم الإشارة إلى الحصى والحجارة، وربما الحشرات التي يحتويها الجوال!
وكانت الفتنة عند البعض مؤقتة، نتيجة الصدمة والهزة، فهي أشبه بالإغماء المؤقت، أو فقد الذاكرة المؤقت، التي تحتاج إلى إفاقة أو تذكير بالثوابت…
هكذا تزلزلت الأرض تحت الأقدام، وبلغت القلوب الحناجر، فتمايزت الصفوف، وبرزت بواطن النفوس، فطائفة قد فُتنت بالكلية، وارتدت، واعتبرت أن وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أمر جلل يستحيل على الله، فإما أن الباري – جل وعز – غير موجود، أو أنه لا يدعم نبيه صلى الله عليه، فكانت رِدَّة العرب الكبرى، وخرج الكثير من الناس من دين الله أفواجًا.
وكانت الفتنة عند البعض مؤقتة، نتيجة الصدمة والهزة، فهي أشبه بالإغماء المؤقت، أو فقد الذاكرة المؤقت، التي تحتاج إلى إفاقة أو تذكير بالثوابت، فما يكون ممن أصيب بهذا الإغماء إلا الإفاقة مباشرة، عند معالجته بدواء ناجع، وهم عدد كبير ممن ارتد ثم عاد، لا بالحرب والقتال، ولكن بالحوار والحُجَّة، والطبيعة التراكمية لهذا النوع تزيد وتنقص في المنطقة الرمادية، فتزيد قتامتها عند البعض، فيقترب من الأسود، فيتأخر رجوعه، وتقل عد البعض، ويقترب من اللون الأبيض، فيكون رجوعه بكلمة أو آية دون تأخير، كما حصل لعمر رضي الله عنه عندما قال: لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا!! فما كان منه إلا أن سمع قوله تعالى من أبي بكر: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم)؟!!
وهناك طائفة لم يصل فيها حد الفتنة بالابتلاء إلى مرحلة الشك أو إنكار الواقع؛ بل رفضوا الحياة بالكلية، وتصاغرت في أعينهم، حتى أنهم لم يعودوا يطيقونها، وهو نوع من اليأس من الدنيا، واليأس من الدنيا يحمل وجهين، فإن أدى إلى إزهاق النفس عنوة فهي مخالفة، وإن كان في الزهد في الدنيا وتركها اختيارًا مع عدم ارتكاب المخالفة فقد يكون صاحبها ممدوحًا بنيته، مع عدم تشجيع هذا الاتجاه باعتباره اتجاهًا عامًا في الأمة، نظرًا لوظيفة هذه الأمة التي أخرجت للناس لا للانزواء والتقوقع؛ وإنما للدعوة والنصيحة.
وهذه الطائفة ظهرت عندما أُشيع وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فالبعض جلس أثناء المعركة، وأخذ جانبًا منها، قد التفَّتْ به أحزانه، على هزيمة عسكرية، وموت نبي الإسلام فيها، فما كان من أنس بن النضر رضي الله عنه لما رأى بعض القوم على هذا الحال إلا أن قال: فما تصنعون بالحياة من بعده، فقوموا، فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فاستقبل القوم وقاتل حتى قُتل، حتى قيل أنه وجد بجسده سبعين ضربة، ما بين ضربة سيف، وطعنة حربة، حتى إنه ما عرفه من الناس إلا اخته التي عرفته من بنانه!
هذه الطائفة هانت عليها الدنيا، وصغرت، وتهمَّشت، حتى إنهم رفضوها بالكلية، لكنهم في رفضهم هذا لم يرتكبوا محرمًا، ولم يشكّوا أو يرتجفوا، بل كان البلاء دافعًا لشجاعة يفتقر إليها أهل الدنيا، حتى إن أنس بن النضر رضي الله عنه قد قال أنه يشتم رائحة الجنة دون أُحُد، فأيُّ بلاء هذا الذي تتصاغر معه الدنيا؟ وأي نفوس هذه التي يزداد يقينها بموعود الله تعالى إذا زاد البلاء؟! ولعل أنس بن النضر ما علم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات هو نفسه (فبصرُك اليوم حديد)!
إنها الطائفة التي يمكن أن يطلق عليها وبحق: ورثة الأنبياء، ولا يمتنع انتقال البعض من الطائفتين إلى الطائفة النموذج، مع ثبات سَبْق من سَبَق، فإنما الصبر عند الصدمة الأولى!
أما الطائفة الثالثة فهي طائفة القيادة وإكمال الرسالة، وحملة المشعل في وقت الفتنة، ولهذا استحقوا القيادة في هذا الوقت، إنها الطائفة التي تمثلت في أبي بكر ومن معه من المؤمنين، الذي أكمل رسالة صاحبه، ولم يثنه البلاء، بل كان دافعًا له على إكمال الرسالة والطريق على ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال مقولته الخالدة قبل أن يستشهد لها بقول الله عز وجل: (من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، ثم قرأ الآية: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم)، فأي رباطة جأش في هذا الظرف الجلل؟! ولا نشك في أن أبا بكر كان أعظم الناس بلاء من خارج أسرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد يزيد بلاؤه عليهم، فمَنْ كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم كحب أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم؟! وهو خِلّه وصَدِيقه، وصِدِّيقه، فكان البلاء أعظم، فلم ينزوِ رضي الله عنه عن الدنيا، ولم يستسلم لحزنه، بل وصل في حرصه على إكمال الطريق وصيانة الشريعة أنه قال: (والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه)!! نعم .. إنه الحرص على كل الرسالة، والغيرة على كل مفردة من مفرداتها، والرغبة الجامحة الدافعة للصيانة والإكمال، لا للردة والانزواء.
إنها الطائفة (النموذج) التي تضطلع بمعالجة الطائفتين الأخرتين، إما بالإرشاد والتوجيه والتذكير والجدال بالتي هي أحسن، للمناطق القريبة من المنطقة البيضاء، وإما الحراسة لهذا الدين إذا ما أرادت المنطقة السوداء والقريبة منها تشتيت هذا الدين وتقسيمه، ورد أحكامه أو بعضها، وإما بتوجيه الطائفة التي ترفض الدنيا وتزهد فيها لتكون مُكَوِّنًا من مكونات المجتمع على ما اختارته، وعدم النكير والإنكار عليها، مع مقاومة اتجاه الهروب من المجتمع والخروج منه… إنها الطائفة التي يمكن أن يطلق عليها وبحق: ورثة الأنبياء، ولا يمتنع انتقال البعض من الطائفتين إلى الطائفة النموذج، مع ثبات سَبْق من سَبَق، فإنما الصبر عند الصدمة الأولى!
التعليقات