تكون دائما بداية التأريخ أو علامته ومقياسه بحدث عظيم عند من يتخذه، ولهذا فهناك من يؤرخ بالميلاد، ومن يؤرخ بالوفاة، وهما من الاقتراحات التي طرحت عند التفكر في وضع التأريخ لأمة الإسلام، والبعض اقترح البعثة والرسالة، وهو حدث هام أيضا، إلى غير ذلك من اقتراحات، لكنهم استقروا على اتخاذ الهجرة كحدث عظيم يبدأ منه التاريخ، وتُصَفَّر عنده السنوات، فما أعظم ما تم اقتراحه، وما أعظم ما استقروا عليه!
لكن المتأمل في فلسفة تفضيل التأريخ بالهجرة يلاحظ أن جميع الاقتراحات كانت بأمور قدرية سماوية لا يتدخل فيها الفعل البشري إلا بالتبع، بينما واقعة الهجرة واقعة بشرية قدرية، تم التخطيط لها، والأخذ بالأسباب، والتمويه، والتعمية، والفداء والتضحية، والخروج من الوطن، والأهل والمال، وهو ما يؤكد على عظمة الفعل وأهميته تظهر عن خروج الفعل الإرادي للمُكَلّف، فهو من سيتعامل مع هذا الحدث وهذا التأريخ، فكأنهم أرادوا أن يقولوا لمن بعدهم: لتكونوا على ذُكْر دائم من حكمة الاختيار، فعملكم هو الأصل، وعندها يأتي العون والمدد (والذين اهتدوا زدناهم هدى).
فضلا عن ذلك فإن هذا الحدث هو المؤذن بإنشاء الدولة بمعناها السياسي، فالإسلام ليس دينا كهنوتيا في المساجد والمعابد والصوامع؛ وإنما هو دين يؤسس دولة، وتكون جزءا من كيانه وتكوينه، وأداة لتطبيق أهدافه وقيمه، وخروجها عن الحيز النظري أو التنظيري… إن حدث الهجرة في ذاته يرد على كل من يريد أن يحصر الإسلام في (ربع العبادات)، ويجعل منه (تعاليم) يتشارك في الاتفاق عليها الحكماء والأديان حتى الوضعية منها؛ وإنما هو ديانة (قانونية فقهية) موضوعها أفعال العباد والمكلفين، وتقدم الحلول والتفاصيل التي تحقق العدالة في الأرض، حتى وإن خالفت في ظاهرها فكرة المساواة المطلقة!
التعليقات