قرار بتغيير الحياة:
لقد صار الالتزام بالإسلام في واقعنا المعاصر له من الخصوصية، بمقدار ما لواقعنا من خصوصيات. تتجلى في بعد كثير من مناحي الحياة وأعرافها عن سمت الإسلام، كما لا يخفى فيها تغييب حقيقة الإيمان عن روح الحياة. فصار قرار الالتزام بالإسلام .. قرارا بتغيير هدف الحياة وشكلها وعلاقاتها. فهو يشبه قرار الإيمان من وجه دون وجه [وإن كان أصحابه يحوزون أصل الإيمان] .. لأنه إحياء وتفعيل للإيمان.
هل مرحلة الشباب هي مرحلة الطيش والانحراف – كما يشيعون – ؟.. في الحقيقة “لا” بل إننا نجد في الوحي أنها مرحلة الإيمان. وذلك لما لها من سمات: كتفجر للتساؤلات، وانطلاق للطاقات، وطلب للمعالي، ورفض لأسر التقليد
فردية الهداية:
وبما أن الدخول في هذا القرار من جنس الهداية، فهو قرار فردي لأبعد الحدود. بمعنى أنه لا بد أن يتخذه كل فرد بنفسه، ولا تكفي فيه النشأة في بيئة مسلمة، ولا حتى ملتزمة بالإسلام. كما لا تكفي فيه محافظة صاحبه على إيمانه التقليدي، والذي استفاده من تلك البيئة.
بكل تأكيد لا يمكن أن ننفي انتفاع الفرد بما في بيئته من خير، ولا أن نقلل أثرها عليه. لأن ذلك سيكون مجافيا للحقيقة أولا، كما أنه سيحرمنا من الاستفادة من أرضيتها النافعة والموجودة ثانيا. لكننا نؤكد فقط على أن ما سبق بمفرده “لا يكفي”. ولعله لذلك قص الله علينا نبأ إبراهيم – عليه السلام – مع أبيه، ونوح – عليه السلام – مع ابنه.
الشباب مرحلة الإيمان:
هل مرحلة الشباب هي مرحلة الطيش والانحراف – كما يشيعون – ؟.. في الحقيقة “لا” بل إننا نجد في الوحي أنها مرحلة الإيمان. وذلك لما لها من سمات: كتفجر للتساؤلات، وانطلاق للطاقات، وطلب للمعالي، ورفض لأسر التقليد [وهي سمات إنسانية عامة للمرحلة، لاحظها أصحاب الدراسات النفسية والتربوية، حتى من غير المسلمين].
لهذا حين ذكر الله – تعالى – أهل الكهف مادحا لهم، ذكرهم بوصفين هامين، أحدهما قدري والآخر كسبي. وجاء الوصف القدري المؤثر دالا على العمر والعدد (إنهم فتية) فكانوا شبابا صغارا في أعمارهم [في مرحلة الفتوة] ، وكانوا قليلين في عددهم [الصيغة من صيغ جموع القلة] . بينما جاء الوصف الكسبي الجامع (آمنوا بربهم) [الكهف-13] فكان هذا ما حققوه في تلك المرحلة، واستحقوا به أن يجعلهم الله مثلا لغيرهم .
ولما كان تحقيق الإيمان أقرب في مرحلة الشباب منه في غيرها، قال الله – تعالى – : (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) أي : من جيل الأبناء لا الآباء، مع أن الجميع رأى الآيات. لأن ذلك كان (على خوف من فرعون وملأهم أن يفتنهم) فهم كانوا أقدر على كسر حاجز الخوف، مع وجود دواع حقيقية له (وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) [يونس-83].
دورنا مع الشباب:
بناء على ما سبق، فإن أهمية دورنا تكمن في حث الشاب على اتخاذ قرار الالتزام، ودعمه في الاستقامة عليه. وهذا يتطلب من الداعية أن يستحضر أمام عينيه ثلاثة محاور كبرى:
الأول: (تكوين/ودعم) الباعث الشخصي على الالتزام .
الثاني: التوجيه (المباشر/وغير المباشر) للشكل الالتزامي الملائم .
الثالث: المعالجة المبكرة للعوائق (المتوقعة/والحاصلة) .
المحور الأول: بواعث الالتزام:
أما المحور الأول، فإن أهم البواعث التي يرشدنا إليها الوحي أربعة:
أولها: استحضار الآخرة، كمستقبل يقيني يسير الإنسان إليه (وجاءت سكرة الموت بالحق . ذلك ما كنت منه تحيد) [ق-19] . لذا جاء في أول أمر بالدعوة (يا أيها المدثر . قم فأنذر … فإذا نقر في الناقور . فذلك يومئذ يوم عسير. على الكافرين غير يسير) [المدثر-10:1] . وذكر الله – تعالى – في القرآن كثيرا الذين (آمنوا بالله واليوم الآخر) [النساء-39] جامعا بين ركن الغاية “الإيمان بالله” والركن الباعث عليه “الإيمان باليوم الآخر”.
ثانيها: تقليد القدوات، كباعث إنساني يستثمر واحدا من أهم الأساليب الإنسانية في اكتساب الصفات. فالنبي – صلى الله عليه وسلم – مع رفعة شأنه، يقال له : (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) [هود-120] كما يقال للصحابة الأخيار – قبل غيرهم – : (كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله) [الصف-14] .. ونماذج الإيمان تملأ الوحي بعظمتها وتنوعها، لتأتي نماذج التاريخ بتفاصيل متدرجة في الاقتراب من نماذج الوحي، وحتى واقعنا المعاصر.
فلا ينبغي أن ينتظر الداعية ظهور المشكلة على الشاب ليبدأ بعلاجه، بل من تمام تأهيله أن يزوده بما يجنبه المشكلات الشائعة. كما يفعل المدرس الماهر مع طلابه، فإنه لا يشرح لهم الطريقة الصحيحة للإجابة فقط، بل ينبههم لأشهر الأخطاء التي قد ترد عليهم في الحل ليتجنبوها.
ثالثها: الحرص على التميز في المكانة، وهو محرك أصيل للأفعال البشرية. لذا أكد القرآن للناس أنه (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [القصص-68] أي : من عموم خلقه. (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) [فاطر-32] أي : وليس ذلك لكل العباد. وخص المؤمنين بأنه (يحبهم ويحبونه) [المائدة-54].
وفي الصحيح عن أبي موسى قال: “كنت أنا وأصحابي الذين قدموا معي في السفينة، نزولا في بقيع بطحان، والنبي بالمدينة، فكان يتناوب النبي عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم، فوافقنا النبي عليه السلام أنا وأصحابي وله بعض الشغل في بعض أمره، فأعتم بالصلاة حتى ابهار الليل، ثم خرج النبي فصلى بهم، فلما قضى صلاته، قال لمن حضره : “على رسلكم، أبشروا، إن من نعمة الله عليكم أنه ليس أحد من الناس يصلي هذه الساعة غيركم”. أو قال : “ما صلى هذه الساعة أحد غيركم”. لا يدري أي الكلمتين قال. قال أبو موسى : فرجعنا ففرحنا بما سمعنا من رسول الله” – صلى الله عليه وسلم – [في البخاري].
رابعها: الاستجابة للتحدي، فإن النفس البشرية كما تتحرك متابعة لغيرها، تتحرك أيضا مضادة لغيرها. ولهذا فإن الشرع قد استنفر هذا الباعث ضد من ينبغي أن يوجه ضدهم، فلأجل ذلك وُجد هذا الباعث. فقال الله – تعالى -: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) [فاطر-6] وقال : (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان) [النساء-76] وقال : (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) [التوبة-8] وقال: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا) [النساء-75] كل ذلك تهييجا للتحدي في محله الصحيح.
المحور الثاني: الشكل الالتزامي:
أما ملاءمة الشكل الالتزامي للفرد، فإننا نجد مستنده في السيرة النبوية، حيث تعددت الأشكال التي وجه إليها النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه، وبالتالي أثنى عليهم بالنجاح فيها. فمنهم من مُدح بالقراءة [كأبي موسى- في الصحيحين]، ومنهم من مُدح بالقضاء [كزيد- صحيح في الترمذي وغيره]، ومنهم من مُدح بالجهاد [كخالد- في البخاري] …إلخ. بل منهم من وُلي الإمارة، ومنهم من صُرف عن ذلك، وقيل له : “إنك ضعيف…” [كأبي ذر- في مسلم] مع مدحه في غير هذا العمل [حسن- في الترمذي وغيره].
ولهذا كانت أبواب الجنة ثمانية، وكانت مقسمة على الأعمال “فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة” [متفق عليه] فلكل فرد (بابه/أو أبوابه) التي تلائمه.
لكن هناك محددين هامين للشكل الالتزامي الملائم:
أولهما: أن يكون ملبيا لطموح الفرد، فيحقق من خلاله نجاحا، ويشعر بالرضا عن ذلك [ولهذا جاء الثناء المرضي لكل منهم متعلقا بعمله].
وثانيهما: أن يكون واقعيا، قابلا (للوجود/والاستمرار) [ولهذا مُنع البعض عن أعمال بعينها (نوعيا) كما سبق، ووُجه البعض في طريقة تعامله مع أنواعه الملائمة (كميا) كما في كلام النبي – صلى الله عليه وسلم – مع ابن عمرو عن عبادته [صحيح- في ابن ماجه وغيره] ].
وهناك أيضا اعتبارين في هذين المحددين:
أولهما : الفرد، بإمكانياته ونقاط ضعفه القائمة (خلقة/واكتسابا من بيئة النشأة).
ثانيهما : البيئة المحيطة (الحالية/والمستقبلية) من جهة، و(الملتزمة/وغير الملتزمة) من جهة أخرى، والتي يتعامل معها الفرد ويتأثر بها – ولو نسبيا -.
المحور الثالث: علاج أهم المشكلات:
فلا ينبغي أن ينتظر الداعية ظهور المشكلة على الشاب ليبدأ بعلاجه، بل من تمام تأهيله أن يزوده بما يجنبه المشكلات الشائعة. كما يفعل المدرس الماهر مع طلابه، فإنه لا يشرح لهم الطريقة الصحيحة للإجابة فقط، بل ينبههم لأشهر الأخطاء التي قد ترد عليهم في الحل ليتجنبوها. وهذا النقل للخبرة يوفر الكثير من الوقت، ويقي الكثير من المخاطر.
وتعرف المشكلات الشائعة بما يلي [على سبيل التداخل، لا الانفراد]:
أولا : بالشيوع الإنساني العام (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة…) [آل عمران-14].
ثانيا : بالشيوع البيئي الخاص (في الزمان/والمكان) [كما في كلام الفقهاء عن أحكام معاملة المردان].
ثالثا : بالشيوع في المرحلة العمرية الخاصة بالشاب [كالميل للتميز بالغرائب في أول مرحلة المراهقة].
رابعا : بالشيوع في نوع الشخصية الذي ينتمي له الشاب [كالميل للغرور في المميزين، أوالتبعية في الضعفاء، ونحوهما].
وحتى لا يتوهم متوهم أن الأصل في القرار الفردي أن يكون مخالفا للبيئة المحيطة، جاء “النموذج الثالث” (ومريم ابنة عمران) كمثال لمن يقرر اختيار الإيمان، وهو في بيئة تساعده على ذلك، فيرتقي لأعلى الدرجات.
أهمية التطبيقات التفصيلية:
بالطبع لا يتسع المقام هنا لبسط الكلام حول هذا المحور الهام، لكن لا يفوتنا أن نؤكد على أهمية الاعتناء بالتطبيقات التفصيلية، وعدم الاكتفاء بالمعالجة العامة. فإن الأفكار هي التي يمكن أن تكون مطلقة، لكن التطبيقات دائما وأبدا ستكون تفصيلية وظرفية.
فالشرع عندما عالج مشكلة النظر إلى الحرام – مثلا – لم يكتف بالأمر العام (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم…) [النور-30] بل عالج – صلى الله عليه وسلم – نظر الفجأة فأمر بصرف البصر [في مسلم] ، وحذر رب العالمين من (خائنة الأعين) [غافر-19].. في جملة من المعالجات الشرعية الشاملة لما يحتاجه المكلف في التعامل مع هذه القضية.. وعلى هذا يكون القياس.
القرار الفردي في بيئة الاضطرار:
إنه إذا كانت بيئة الاختيار [التي يوجد فيها الفرد بإرادته الحرة] معبرة عن ميول حقيقية لديه، لذلك كان “المرء على دين خليله” [حسن- في الترمذي وغيره].. فإن بيئة الاضطرار [التي يوجد فيها الفرد للضرورة أو للحاجة أو للمصلحة الراجحة مع عدم رضاه عنها] لن تؤثر على الإنسان.. إلا بمقدار ما يسمح هو لها بالتأثير.. وهاكم الدليل:
النفس السيئة في البيئة الصالحة:
فمن عاش في أفضل بيئة خاصة “بيت نبوة” ورفض أن يستجيب للإيمان .. لم يتأثر ببيئته تلك. وهذا ليس استثناء، بل هو “النموذج” المتكرر، لذا (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) وقد صارتا “مثلا” لكل من يختار رفض الإيمان، لأنهما (كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين) لكن وجود قرار الرفض لديهما أثمر (فخانتاهما) في الدين (فلم يغنيا عنهما من الله شيئا…) [التحريم-10] .. وغلب القرار الفردي السيء تأثير بيئة الاضطرار.
النفس الصالحة في البيئة السيئة:
وعلى الطرف المقابل، من عاش في أسوأ بيئة خاصة “بيت فرعون” وقرر أن يختار الإيمان .. لم يتأثر ببيئته أيضا. وليس هذا استثناء، بل هو النموذج المتكرر، لذا (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون) وقد صارت “مثلا” لكل من يقرر اختيار الإيمان، لأنها (قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله…) [التحريم-11] .. فغلب – أيضا – القرار الفردي الصالح تأثير بيئة الاضطرار.
النفس الصالحة في البيئة الصالحة:
وحتى لا يتوهم متوهم أن الأصل في القرار الفردي أن يكون مخالفا للبيئة المحيطة، جاء “النموذج الثالث” (ومريم ابنة عمران) [التحريم-12] كمثال لمن يقرر اختيار الإيمان، وهو في بيئة تساعده على ذلك، فيرتقي لأعلى الدرجات.
فنخلص من الأمثلة السابقة إلى أن الالتزام بالإسلام قرار فردي [وكذلك ضده] . والبيئة وإن كانت عاملا مساعدا قويا “مثل الجليس الصالح وجليس السوء…” [متفق عليه] ، إلا أنها ليست حاسمة في تأثيرها (موافقا كان لاختيار الفرد/أو مخالفا) بل مرد ذلك للقرار الفردي لكل إنسان.
المثل المفقود:
هو “نموذج” لصاحب الاختيار السيء في بيئة السوء، ولم يذكر لعدم الحاجة إليه، استغناء بما ذكر في معرفة نتيجة ذلك. فمثل هذا إذ لم ينتفع ببيئة الخير، فإنه سيجد فرصته لما أحب في بيئة الشر. وليست البيئة هي ما ألجأه لذلك، فالانحراف قرار فردي بالأصالة .
سر اختيار النساء:
لأن جنس المرأة أضعف من جنس الرجل (الرجال قوامون على النساء بمافضل الله بعضهم على بعض) [النساء-34]، ولأن المرأة أضعف ما تكون أمام زوجها “فإنهن عوانٍ عندك” [أي : أسيرات عند أزواجهن] [حسن- في الترمذي وغيره].
فإذا كان الجنس الأضعف.. في الموقف الأضعف.. لا يملك أحد أن يكرهه على خلاف قراره الفردي .. فكيف بغيرهن؟!
التعليقات