للمرتقين في مدارج الوصول طرائق ، ولهم في أسرار السلوك لطائف ورقائق ، قد أزاحوا عن درب السمو كل عائق ، وقطعوا ما يجذبهم إلى الدنيا من علائق .. هم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .
والزهد هو من خصائص وصفات العارفين ، وله في مدارج السالكين أعلى المنازل . لكن حقيقته عند سلف هذه الأمة من أولياء الله الصالحين وأصحاب رسوله المصطفين غير حقيقته ومفهومه عند من جاء من بعدهم ولم يبلغ منزلهم .
لقد انحرف مفهوم الزهد من الصبغة الربانية والسنة النبوية إلى طريقة رهبانية ، ما رعاها من ابتدعها حق رعايتها . فأساء قوم بدل أن يصيبوا ، وباعدوا ولم يقاربوا .
فالزهد عند السلف هو ترك متاع الدنيا لما هو خير منها ، والتخفف من الدنيا من أجل الآخرة ” قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ” ، أما عند الخلف فقد كان الزهد عندهم زهد في ذات الدنيا .
الزهد عند السلف هو التخفف من الدنيا لأجل الحركة ، والانطلاق من جواذب الأرض والسعي فيها ” فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ” ” وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ ” ” انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ” ” وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ “.
أما الزهد عند الخلف فإنه البطالة والقعود والتصومع ” إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ” .
زهد السلف في الدنيا يكون مع انتزاعها من أيدي المجرمين وردها للمستضعفين . ” وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ” .
أما الخلف فيزهدون في الدنيا ليسلمونها للمجرمين ليسوموا الناس من العذاب.
الدنيا عند السلف هي حرث الآخرة ، ومعبر لدار القرار ” مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ” . فقد سخرها الله لهم نعمة ورزقا ، واستوجبت عليهم ذكرا وشكرا ” اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ – وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ- وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” .
وهي دار عمل وجهاد وموضع استخلاف ” وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ” .
أما الدنيا عند الخلف فهي منبوذة حقيرة مذمومة ، تخرب لا تعمر ، تترك لا تسخر .
عند السلف يكون الانصراف إلى متاع الدنيا والانشغال بحرثها ، وترك الجهاد والانفاق في سبيل الله إلقاء بالنفس بالتهلكة. فمنهجهم وشعارهم فيها : “وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ” .
أما الخلف فمنهجهم وشعارهم : ” وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا “.
زهد السلف فتح الأرض ونشر نور الرسالة وأزاح الطغاة وحرر البشر ، وزهد الخلف أفسد الدنيا وسلط المجرمين وأضاع الدين .
التعليقات