هناك علاقة وثيقه بين رواج وانتشار مدارس فكرية ، ومناهج حركية ، وكيانات سياسية في واقع ما ، وبين البيئة الاجتماعية والسياسية والجغرافية الحاضنة لهذه الاتجاهات والحركات والجماعات .
إن قوة الأطروحات وكفاءة وفعالية أصحاب المشاريع ، ليست هي العامل الوحيد لرواج وانتشار أطروحات حركية معينة ، أو نجاح تجارب حركية وسياسية ، وإن كانت كل هذه من العوامل المؤثرة .
إذ أن هناك عوامل أخرى قد تكون أقوى وأشد تأثيرا في رواج الأفكار أو نجاح المشاريع في البيئات التي تنجح فيها .
ويدل على ذلك تنوع الأفكار الرائجة والاتجاهات السياسية السائدة بتنوع البيئات الإنسانية المختلفة ، فقد ينجح اتجاه سياسي في بلد بينما يخفق في آخر ، وقد تروج مدرسة فكرية في إقليم وتبور في اخر .. وهكذا
فعلى سبيل المثال نلمس أن البلاد الزراعية منبسطة التضاريس ، والتي تعيش تحت حكم مركزي قوي ، ويتطبع أهلها بطابع اللين والسهولة وسلامة الانقياد ، وتفتقد لروابط العصبية ، وهي تعتمد على الدولة في أمنها وحمايتها وتسيير امور معيشتها ، كما أنها لا تميل للتصادم والثورة وتحبذ الاستقرار ، وهي أكثر تعقيدا في طريقة معيشتها وحساباتها ، وأعمق في نظرتها للأمور وفي تدبير شؤونها واتخاذ القرارات .
مثل هذه البيئة تروج فيها الأفكار اللينة السهلة المتعايشة المناسبة للطبيعة الانسانية ، لا الأفكار الحاده الشديدة . كما تنمو فيها التيارات الإصلاحية المتسقة مع الطباع البشرية السائدة ، لا التيارات الثائرة المتمردة المتصادمة مع البيئة الاجتماعية والسياسية ، حيث لا تطيق الطباع البشرية السائدة هذا النوع من الخيارات ، ولا تسمح الأوضاع السياسية لنجاح هذا النوع من المشاريع .
لهذا يندر في هذه البيئة من عنده الاستعداد النفسي لتبني مثل هذه الأفكار الثائرة القوية وانتهاج هذه الوسائل الصدامية ، إنما يغلب عليها كثرة الحسابات وتقدير الموازنات والتأني في الحركة .
أما البيئة الصحراوية أو الجبلية فإنها تتميز بالبساطة والوضوح ، وأصحابها أقرب للفطرة ، وأبعد عن ملوثات البيئة وصخب الحياة . فالليل سكن وظلام ، والنهار معاش وقيام ، الشمس ظاهرة لا يحجبها بناء ، والقمر بارز لا يخفيه أضواء . لذا تناسب هذه البيئة وضوح الفكرة وبساطة الأطروحة ، وظاهرية النظرة . وهي لا تقبل الفلسفات والجدل ، ولا تستسيغ زخارف القول ولا تكلف المظهر ، ولأنها أقرب الى الفطرة فإنها تميل الى سمت الفطرة أو ما يسمى بالهدي الظاهر .
كما أن حياة التوحش والانفراد ، وشدة العيش ومواجهة الأخطار ، وتمرس حمل السلاح وحماية النفس ، وما يورثه من الجلد والإباء والتمرد وعزة النفس وعدم الخضوع للغير ، مع العصبية القبلية التي تمثل الحماية والملاذ . هذه الطبيعة تميل الى المناهج الحادة القوية والمشاريع الصدامية .
ولهذا الأمر جعل الله منطلق رسالة الإسلام من أرض العرب ، فهم أقرب للفطرة ، وأبعد عن الفلسفات والجدل وزخرفة المادة وتعقد الحياة . فكانوا أسلس في تقبل الوحي ، وأسهل في الدخول للإسلام ، وأنقى في التعامل مع حقائقه . هذا بالإضافة لما يتمتعون به من فدائية في حمل هذه الرسالة ، وقوة في نشرها ، دون إستحضار لحسابات كثيرة ومعقدة في مواجهتهم للقوى العظمى في زمانهم المتمثلة في فارس والروم . فكانوا الأمثل للانطلاق بحركة التغيير .
ثم جاءت مرحلة بناء الدولة بمفهومها الكامل “ إنشاء الدواوين” بعد فتح العراق والشام ومصر .
ومن جهة أخرى فإن هذا الرواج للمناهج الفكرية والمشاريع الحركية في بيئاتها المختلفة ، غالبا ما يتوافق مع طبيعة مناهج التغيير المناسبة لهذه البيئات . وقد يكون هذا التوافق إما بشكل قدري رباني وتدبير الهى خاص ، أو هو إفراز طبيعي لتفاعلات هذه البيئة وصورة من صور التكيف مع المناخ السائد فيها .
فالدول التي تحكمها إدارة مركزيه قوية ، التغيير فيها يحتاج إلى تحضير طويل ، وتغلغل بطئ خفي ، وتأهيل لقوة موازيه كامنه تنقض في لحظة مواتيه على تقاليد الحكم بأسلوب انقلابي مركزي .
فترث كل القطر بضربة واحدة حاسمة ، وان كانت طويلة التجهيز .
” مثال : إنقلاب صلاح الدين على العبيديين في مصر . ”
أما إن نشأت في هذه البيئة مواجهة مبكرة غير قادرة على تسديد ضربة حاسمة للمركز ، أو تمرد في الأطراف بعيدا عن الادارة المركزية المهيمنة ، فإنه سرعان ما يحتوي المركز هذه المحاولة ، ويجهض هذا المشروع الناشئ قبل اشتداد عوده ، أو يعزله عن مقومات الاستمرار ثم يقتله . حيث لم يمتلك هو القوة الكامنة للصمود أمام قوة المركز المتماسك .
ولا يصلح هذا النوع من التغيير الاستنزافي المرحلي أو التدريجي التوسعي ، إلا في حالات الفراغ السياسي ، أو في بيئة تفتقر لوحدة سياسية مركزيه وحكم مركزي أوحد .
” مثال : نور الدين مع إمارات الجزيرة والشام ”
وبعد هذا العرض التحليلي والتجريدي ، يمكننا – إذا أسقطناه إسقاطا معاصرا – أن نتصور من خلاله الواقع الحالي ، ونفهم في ضوئه أسراره ، ونكشف الحكمة القدرية المستورة خلف حجب الظواهر المنشورة .
فمصر كنموذج مثالي للحكم المركزي ، فإنه لكي يحدث فيها تغيير فانه يحتاج لتحضير طويل ، وإنشاء لقوة كامنة ، وتجهيز خفي لآلة فاعلة ، يتوج بتغيير إنقلابي حاسم .
وفي هذه الحالة يحتاج الواقع لمنهج إصلاحي في التغيير ، وهذه المناهج الاصلاحية هي التي راجت في هذا المناخ ، وإحتضنتها البيئة لموافقتها لطبيعتها ، في مشهد إما أن يتجلى في البعد القدري أو هو إفراز طبيعي لتفاعلات الواقع .
أما في الشام والعراق فإنه لم يكن فيها قوة كامنه تحتضنها البيئة . إنما هي الأحداث التي خلخلت الواقع وضعضعت الحكم المركزي ، وفجرت في الأرض بؤرا تمددت واتسعت مع مرور الوقت وتطور الأحداث .
فناسبت هذه الطبيعة الخيار التصادمي الجهادي ، ووافقت الأطروحات الفكرية طبيعة رجال الصحراء .
إذا فإن مناهج الحركة ومشاريع التغيير تتعدد باختلاف طبيعة البيئة الانسانية والاجتماعية والجغرافية والسياسية ،، فالجغرافيا تشكل الطبيعة الإنسانية والبيئة الاجتماعية ، كما ترسم شكل الأنظمة السياسية .. والصبغة الانسانية والاجتماعية تؤثران على النظم السياسية .. والنظام السياسي يساهم في تشكيل الطبيعة الإنسانية والاجتماعية .
إجتماعي <= جغرافي => سياسي
وعندما يشخص لنا هذا التصور فإننا نخلص إلى عدة نتائج ، منها :
1) أن التفاضل المطلق بين المناهج المختلفة غير صحيح .. فكل بيئة تختص بأطروحات ومشاريع تناسبها ، ومحاولة التفاضل بينها كمن يفاضل بين مضادين حيويين كل منهما يعمل في وسط خاص به مختلف عن الآخر .
2) أن إستخدام نفس المسار في البيئات المختلفة والظروف المتباينة هو أمر غير واقعي ولا فعال ، وهو كمن يريد أن يرسم دائرة بمسطرة كل يخط بها أشكالا مستقيمه ، أو من يحاول أن يخط خطا مستقيما ببرجل كان يعتاد رسم الدوائر به .
3) قد تحتاج البيئة الواحدة إلى تعدد مناهج التغيير ، حيث تكون البيئة كثيرة التعقيد ، كثيفة التشابك ، غزيرة التداخل .. ويصبح التغيير هو محصلة تفاعل هذه المناهج المتعددة مع الواقع .
” في نفس التوقيت الذي كان النبي يعالج فيه مشروع المدينة الناشئة ، كان أبو بصير وأبو جندل عند سيف البحر في مشروع خاص بهم ، والمهاجرون في أرض الحبشة لم يقدموا منها بعد ” .
هذا والله أعلم
التعليقات