أسباب فشل انقلاب مصر

لقد كان الانقلاب الذي قاده وزير الدفاع المصري عبدالفتاح السيسي حدثا مدويا في قلب العالمين العربي والإسلامي ، لأنه حمل ملامح النهاية المؤلمة لما عرف بـ”الربيع العربي” في مصر أولا ، ثم في باقي دول “الربيع” كتونس ، و”شبه الربيع” كسوريا ، و”أمل الربيع” كفلسطين . ولأنه جمع عناصر القوة العسكرية من جيش وشرطة ، مع استثمار قدر كبير من السخط الشعبي الذي صنعته الأزمات وروج له الإعلام ، مما جعل مواجهته أمرا صعبا بالحسابات البشرية للأسباب .

لكنه فشل ..

وليس كلامي هنا مصادرة للنتيجة ، ولا رجما بالغيب ، لكنه تحليل للحدث في أطواره الثلاثة ، قبل الانقلاب ، وأثناءه ، وبعده ، مع استشراف لمستقبله . مع التأكيد على أنه حتى الآن مجرد “مشروع انقلاب” لم يكتب له الاستقرار بعد ، بل هو بين الحياة والموت في الظاهر ، وأسباب وعلامات فشله أكبر وأخطر ، حتى لو كانت لا تزال أقل ظهورا عند الأكثرين .

أسباب قبل الانقلاب 

إذ لم يكن خيار الانقلاب هو الخيار المفضل لكل من رغبوا في تغيير الشكل السياسي لمصر بعد ثورة يناير والانتخابات الرئاسية ، وخاصة بالنسبة لقيادة الجيش . فقد حافظت على مكتسباتها ، بل حصلت على المزيد منها . كما أنها مثلت القوة الكامنة التي يسترضيها الجميع ولا يعادونها ، حكومة كانوا أو معارضة .  ثم إنها كانت بوضعها هذا في مأمن من التقلبات التي يتعرض لها أصحاب الصدارة في المشهد السياسي المضطرب .

وما سبق يفسر لنا لماذا لم يعلن الانقلاب في 30/6 ؟ .. مع أنه كان التوقيت الأفضل ، حيث الحشد الأكبر ضد الرئاسة في الشوارع ، في مقابل انحياز الرافضين للانقلاب حينها في مكان واحد “ميدان رابعة” وبعدد أقل ، والأهم أن التعاطف الشعبي في تلك اللحظة مع الرئاسة خصوصا ومع التيار الإسلامي الذي تمثله عموما كان في أدنى درجاته .

كما أنه يفسر لنا سر مهلة الـ48 ساعة ، حيث راهن الانقلابيون على أن الرئيس سيضعف أمام الضغوط الثلاثة : الخارج ، والشارع ، والجيش . وسيقبل بأحد الانتحارين : التنحي ، أو الرئاسة الشرفية منزوعة الصلاحيات .

وهما انتحاران لأن أيا منهما سيجعل صب اللعنات عليه وعلى التيار الإسلامي فقط ، في حين سيشرعن وجود الانقلابيين ويمنحهم فرصة الاستقرار . وبكل الاعتبارات فأي منهما سيجعل عودة النظام القديم إلى سطح المشهد السياسي أسهل وأجمل وأقل استفزازا ، كما أنه سيحرم التيار الإسلامي من شرعية المقاومة ، ومن الاجتماع عليها ، فضلا عن جمع الجماهير عليها .

أسباب أثناء الانقلاب 

لقد أرادوا من الرئاسة خطوة إلى الوراء ، ففاجأتهم أنها لن ترجعها ، بل كانت المفاجأة أكبر عندما أرادت – مضطرة ومتأخرة – أن تخطو إلى الأمام من خلال تغيير وزير الدفاع . فكان الانقلاب العسكري حركة ضرورة لا حركة اختيار .

وفي محاولة يائسة لإخفاء صورة الانقلاب ، تم استدعاء شيخ الأزهر العضو السابق في لجنة سياسات جمال مبارك ، ورأس الكنيسة المصرية التي تحالفت مع مبارك وحرّكتها الطائفية ضد الإسلاميين ، مع د.البرادعي ممثلا للعلمانيين في الداخل وللدعم الأمريكي في الخارج ، وأخيرا مع أمين حزب النور الواجهة السياسية للدعوة السلفية بالإسكندرية كفصيل من الحركة الإسلامية . فلماذا كل هؤلاء ؟

إن دراية قادة الجيش بأنهم يتحملون العبء الأكبر في هذا الانقلاب ، باعتبار أن كل من سبق ذكره لا يقدرون عليه بدون الجيش . وأنهم سيدفعون ثمنه الأكبر ببروزهم الزائد على سطح المشهد السياسي مرة أخرى – كأيام المجلس العسكري – . كما أنهم سيتحملون مواجهة كل صور الاعتراض على الانقلاب العسكري واستفزازه للكثيرين . إن درايتهم بما سبق أدت لمحاولة التخفي في صورة جامعة تخفف من حدة المشهد .

فمشهد الانقلاب العسكري مشهد يحمل فشله في طياته ، حتى عند من قاموا به . فكيف إذا فشلوا في تمويه صورته كما هو الحاصل ؟ لدرجة أن دعم الانقلاب لم يحمل شعارا إلا رفع صورة شخص واحد .. هو وزير الدفاع ، واختفت صور الشركاء !

و جاء الانقلاب بعد مهلة ، ساعدت التيار الإسلامي على أن ينزل إلى الشارع بقوة أكبر ، وأن يجمع في حركته أطيافا أكثر من أبناء مختلف التيارات الإسلامية ، ومتعاطفين معهم ، وآخرين أرابهم الوضع .

ومع كونهم لم يستلموا ناصية الشارع في تلك اللحظة ، لكنها كانت بداية المنازعة ، وكشف زيف الالتفاف الشعبي حول الانقلاب . وهما مقدمة ضرورية لكل ما جرى بعد ذلك .

أسباب بعد الانقلاب 

أما بعد الانقلاب فقد ظهر الخلل السياسي ، فتم ترشيح أربعة أشخاص لرئاسة الوزراء على التوالي ، في ظرف أربعة أيام فقط . واستغرق تشكيل الحكومة وقتا طويلا ، بالنسبة لانقلاب يريد فرض الاستقرار وتجاوز مرحلة المحاولة .

ثم جاءت حكومة تحت سن الثمانين عاما ، وتجمع بين بقايا نظام مبارك ، مع وزراء الأزمات الثلاث : الداخلية بأزمة البلطجة والفوضى الأمنية ، والكهرباء بأزمة القطع المتكرر للتيار الكهربائي ، والبترول بأزمة البنزين والسولار .

لتقوم بإلغاء عدد من الامتيازات ، في المعاشات والتموين وإلغاء عدد من الديون الزراعية ، والتي حصل عليها الشعب عموما ، والفقراء خصوصا . في أسوء رسالة تهدم بسرعة كل دعاوى الثورة والعدالة الاجتماعية ، والتي استغفلوا بها قطاعات من الشباب .

كما ظهرت بسرعة أشكال الدولة البوليسية ، فتم غلق عامة القنوات الإسلامية فقط ، وتمت السيطرة على الخطاب الإعلامي فعاد يردد كلاما واحدا ، كما كان في عهد “المخلوع” تحت مقص الرقيب ، بل وظهرت لغة من المودة والاحترام لرموز النظام البائد ، بالتوازي مع لغة العداء السافر للإخوان خصوصا وللإسلاميين عموما .

وبدأت معاملة الأجهزة الأمنية بمختلف فروعها ، تعود إلى سابق عهدها في المعاملة ، خاصة مع الإسلاميين ، في ظل إدارة واضحة من جهاز أمن الدولة سيء السمعة . فتمت استدعاءات ومداهمات لبيوت ، لكن بشكل غير متوسع حتى هذه اللحظة . وتم القبض أو طلب القبض على عدد من الرموز الإسلامية المتصدرة للمشهد الرافض للانقلاب . ورجع تلفيق القضايا كما كان قبل الثورة .

وظهر عدم التوافق على الانقلاب بهذا الإخراج ، فتم تغيير مدير المخابرات العامة ، مع أنه ليس محسوبا على الإسلاميين ولا حتى على الموالين للرئيس . وتم القبض على نائب رئيس جهاز أمن الدولة اللواء أحمد عبدالجواد .

كما تعجل نجيب ساويرس الطائفي الداعم لمبارك ، بإعلان أنه كان ممولا لحملة “تمرد” الممهدة للانقلاب . وتعجل بعضهم بكشف علاقة “تمرد” بأمن الدولة ، ثم أنكر ذلك سريعا وادعى سرقة حسابه الإلكتروني . وانسحب شيخ الأزهر من المشهد الذي ظهر أنه ليس غنيمة باردة ، بل مخاطرة بثمن .

فصب ذلك كله – مع توالي حصوله بسرعة – في مصلحة الإسلاميين ، الذين نزلوا بكثافة في الميادين والشوارع رفضا للانقلاب . وصار مر الأيام لا ينقصهم بل يزيدهم ، ويضيف إليهم أطيافا أكثر تنوعا من المتعاطفين ، ومن المستشعرين خطر الانقلاب .

وتغيرت صورة الشارع المصري ، ولم يتكرر حشد 30/6 ، بل تلاشى أسرع مما توقع الكثيرون . فصار المشهد منقسما ما بين قوة انقلاب عسكرية ، مع نخبة علمانية وفلولية معادية للإسلاميين . وبين قوة شعبية متنامية ، في قلبها الإسلاميون ومن تعاطف معهم .

وأن يقدموا الشهداء في الميادين والشوارع ، بدلا من أن يقتلوا بعد ذلك في البيوت والسجون في صمت وبلا ثمن . فكسروا جدار الصمت والعزلة الذي أراد الانقلابيون فرضه

وقرر الإسلاميون أن يخوضوا معركة الصبر والمرابطة ، وأن يتجنبوا الانجرار إلى مواجهات مسلحة تسوغ إبادتهم . وأن يقدموا الشهداء في الميادين والشوارع ، بدلا من أن يقتلوا بعد ذلك في البيوت والسجون في صمت وبلا ثمن . فكسروا جدار الصمت والعزلة الذي أراد الانقلابيون فرضه . وحققوا رفضا شعبيا متزايدا يمنع استمرار الانقلاب بمنع استقراره .

فأربك المشهد قادة الانقلاب ، مما دفعهم لاستخدام الجيش في مجزرة الحرس الجمهوري ، كمحاولة يائسة لمنع استمرار وتقدم الجموع . لكن النتيجة كانت الأسوء ، فقد تنامى التململ داخل الجيش نفسه ، ويكفي لإثبات ذلك فضيحة الفيديو المركب من مشاهد قديمة ، لإظهار الولاء للسيسي والتماسك حوله . كما أن الإجرام قد زاد من حماسة وأعداد المحتشدين في الشوارع .

ودخل قادة الانقلاب في متوالية علاج الأخطاء بما هو أشنع منها ، فأرجعوا الجيش خطوة إلى الوراء ، وأطلقوا الداخلية والبلطجية لأداء دور الإرهاب القذر ضد الفعاليات الرافضة للانقلاب ، بعد أن كانوا قد أخفوا البلطجية أياما لإظهار استقرار الانقلاب وتحقيق الأمن . ثم هاهم يحاولون علاج الأثر العكسي المتمثل في تزايد الحشود ، بالأمر بمزيد من إراقة الدماء ، وباستهداف متعمد لنساء . في تكرار بغيض لسياسة الطاغوت المخلوع ، مع أنها لم تغن عنه شيئا .

في النهاية 

كل ما سبق أعادنا إلى صورة قريبة من صورة ثورة 25يناير في تناميها ، مع فروق لمصلحة التيار الإسلامي . فهو اليوم رائد للحدث ، بعد أن كان متواريا عن عمد في الثورة . وخصمه اليوم غير مستقر ، بعد أن كان المخلوع قد استتب أمره ثلاثين سنة . ولجوء خصمه للمبالغة في البطش عنوان إفلاس ، بإخراج آخر ما في جعبته .

وليس بعد ذلك – بإذن الله – ومع استكمال هذه الأسباب ، واستشراف مستقبلها ، إلا أن يظهر على الملأ .. فشل الانقلاب في مصر .


التعليقات