لعل من أعجب المفارقات أن تكون الثورة المصرية من أكثر الثورات سلمية في شعاراتها وممارساتها ، ومع ذلك ينتج عنها عنف يتصاعد حينا ويخفت حينا آخر ، ولكن دون انقطاع يسمح بالتقاط الأنفاس ، أو يمنع نزيف الدماء .
تفريق مهم
من الثابت أن من يشعلون الأرض في الشارع المصري الآن ليسوا هم ثوار 25 يناير ، وإن كان بعضهم له فيها مشاركة ما . لكن المشهد العام والتركيبة الإنسانية ينمان عن اختلاف يصل إلى حد التناقض ، فمشهد صلاة الجماعة المهيب في ميدان التحرير قد استبدل به مشهد غياب صلاة الجمعة في يوم جمعة !! ومشاهد العفة والتعاون قد استبدل بها مشاهد لاغتصاب جماعي وللتحرش الجنسي !! ومشاهد الوفاق الوطني قد استبدل بها تهديات الإقصاء والإحراق !! بل إن مشاهد الإجماع على رفض “المخلوع” وعصابة “الفلول” قد استبدل بها مشهد وضع اليد معهم ضد من انتخبه الشعب بإرادة حرة – ولو لم يعجب البعض – !!
تجاوز الحقائق
أليس عجيبا أن يغطي المشهد تشبيه “مرسي” بـ”مبارك” قفزا فوق انتخاب الأول منذ أشهر معدودة ، وفرض الثاني لمدة عقود ؟! بل تشبيهه بـ”هتلر” كدكتاتور جاء عبر الصناديق ، قفزا فوق المناخ النازي في ألمانيا وقتذاك والذي حمل هتلر ، ومناخ الثورة ضد الاستبداد الذي فاز فيه د.مرسي ؟! والتخويف من “ميليشيات الإخوان” بينما أفرادهم يقتلون ورموزهم يصابون ومقراتهم تحرق ، وفي نفس الوقت ينعم خصومهم الداعون والداعمون للإجرام بالأمن والحرية ؟!.. في متوالية من المغالطات التي يراد تمريرها بكثرة تكرارها سياسيا وإعلاميا .
خيوط المؤامرة
إن الأداء الإعلامي المضاد للمشروع الإسلامي عموما ، وللرئاسة التي تمثل واجهة له خصوصا ، لايتم دون تنسيق يحقق التناغم ، وهو لا يتم دون مظلة تشعر بالأمن من المحاسبة . ومقارنة سريعة بين اللغة الإعلامية بعد الثورة مباشرة ، وبينها الآن كفيلة بإبراز الفارق .
كما أن اجتماع الخصوم السياسيين للإسلاميين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، لم يتم بعيدا عمن يجمعهم على هدف هدمي ، اعتاد أن يوظفهم فيه ويوزع المكاسب بينهم ، بعد أن أقنعهم أن الوضع الجديد لن يستمر . وموقع معارض مثل “حمدين” والذي دخل هو وأنصاره مجلس الشعب السابق على قوائم “حزب الإخوان” أمر له دلالاته .
وأصحاب الأموال الذين طالما أثروا من زواج المال بالسلطة ، حين تتوحد حركتهم ضد الإسلاميين ، ويكثر إنفاقهم على الفعاليات المناهضة لوجودهم في الحكم ، مع أن “رأس المال جبان” . هل يتخيل أنهم ينفقون دون صفقات مع من يعدهم بربح أكثر ، وتعويض قريب ، حين يستردون ذلك “الزواج المحرم” ..؟!
أما جيوش “البلطجية” الذين صاروا لاعبا أساسيا في الشارع المصري ، فمن المعروف من أيام “المخلوع” أنها قوة غير نظامية ، لا تتحرك باجتماع ونظام إلا من خلال الأجهزة الأمنية ، وليس دورهم أيام الثورة خافيا على أحد .
ولا يجمع هذه الخيوط إلا “جهاز أمن الدولة” والذي لا زال باقيا بقوته وقياداته الأساسية ، في سابقة فريدة من نوعها ، إذ تعمل كل ثورة منتصرة على تبديل جهاز الأمن السياسي الذي كان يؤمن من ثارت عليهم ، إلا في الحالة المصرية الراهنة .. بكل أسف .
أسرار الخسائر والمكاسب
ألا يخسر العلمانيون من رصيدهم في الشارع ، حين يرتبطون بـ”الفلول” و”البلطجة” ويساهمون في زيادة معاناة عموم الشعب الذي يزداد فقرا وقلقا ؟! .. بلى .. فلماذا يستمرون ؟!
أولا : إنهم يدركون أنهم نبت الخارج في بلادنا ، فلا تقبلهم تربتنا إلا بوضع صناعي غير طبيعي ، ولهذا فهم لا يعولون في نجاحهم على انجذاب الشعب إليهم . بل يكفي أن يقل دعمه للإسلاميين .
ثانيا : فخطة عملهم تقوم على الخصم من رصيد الإسلاميين في الشارع ، من خلال تكريس الفوضى الأمنية التي تسقط هيبة وقيمة حكم الإسلاميين ، وتمهد للانقلاب عليه في أقرب فرصة مواتية .
ثالثا : كما أن تلكم الفوضى الأمنية تنعكس مباشرة على الحال الاقتصادية ، وزيادة معاناة الناس تحمل تلقائيا لمن يحكم البلاد ، بغض النظر عن أسبابها التي قد لا تعني كثيرين منهم . بل قد تلجئهم إلى القبول بأي بديل ، يقدم أي حلم للحياة .
رابعا : وعليه فإن أي استقرار للبلاد على أي مستوى ، لا يصب في صالحهم . بل قد يؤدي إلى إزاحة لهم ، عن بعض مناطق النفوذ التي يستخدمونها ضد الإسلاميين ، ويستعدون من خلالها للانقضاض على الدولة مرة أخرى .
خامسا : إنهم في كل مرة يقتربون فيها من الانقلاب – وإن لم ينجحوا فيه – ينالون المزيد من المكتسبات ، بسبب ضعف الداخل ودعم الخارج . وهم بهذا يكونون في كل مرة أقرب إلى تحقيق أهدافهم من التي قبلها .
وأخيرا :
لهذا سيستمر العنف في مصر ، ما لم يتم تطهير وزارة الداخلية عموما ، وجهاز أمن الدولة – والذي تسمى بالأمن الوطني – خصوصا ، لضرب مفاصل إدارة وحماية الفوضى الأمنية . مع إعداد بديل من الأفراد الجدد غير المعادين للإسلاميين بأقصى سرعة ، فكل مال سيبذل لتحقيق الأمن على الأرض سيكون أقل مما نخسره بسبب الفوضى . وسيجد الشعب أهدافا لثورته تتحقق على الأرض ، مما قد يسهل عليه تحمل بعض الثمن والتبعات . بدلا من شعوره بأنه يبذل ثمنا بلا مقابل يربحه ، مما يدعوه لليأس والقبول بأي بديل . وإن من لن يغامر لينتصر ، قد يهزم من أضعف أعدائه .
التعليقات