لقد كان انقلاب (3 يوليو) العسكري في مصر تتويجا للصراع بين مركزين للقوى :
المركز الأول: لجمهور الإسلاميين الرافضين للانقلاب على الرئيس المُنتخب – مع اختلاف علاقاتهم به أو تقييمهم لأدائه أو رغبتهم في استمراره بنفس الصورة .
والمركز الثاني : لكل خصومهم (العلمان/يساريين) داعمي الانقلاب والذين تجمعوا سياسيا حول ما سُمِّي بجبهة الإنقاذ، وضموا كتلة طائفية وأخرى فلولية مع خطوط قوية داخل الأجهزة الأمنية للدولة ثم قيادة المؤسسة العسكرية أخيرا.
لكن الصورة لم تبق هكذا طويلا، بل طرأت عليها تعديلات هامة، أبرزها ثلاثة :
أولا : انحياز غلاف شعبي قوي لفعاليات الإسلاميين الرافضين للانقلاب.
ثانيا : انقسام المعسكر الانقلابي، بانسحابات وتهميشات ونزاعات على الرئاسة.
ثالثا : انفضاض أكثر الغلاف الشعبي الذي مرّر الانقلاب، باكتشاف خدعة الثورة المضادة متأخرا، أو بفقدان الأمل فيما طلبوه لدنياهم بعد الانقلاب، تحت مطارق الظلم وتكاثر الأزمات.
فإذا تجاوزنا الكلام عن القوة الإسلامية، وغلافها الشعبي المتحرك أو المتعاطف معها، وهم قوة قد فرضت نفسها على الساحة بما لا يمكن تجاوزه. فإننا نصل إلى مقصود كلامنا، وهو ذكر مراكز القوى المتنافسة على أرضية التمكين للانقلاب،
وهم ثلاث قوى متنازعة على الرئاسة :
أولهم :
قائد الانقلاب العسكري، والذي صار (المشير) السيسي بعده. وقوته تتركز في الجيش، حيث عيّن من يراهم أقرب إليه في المراكز القيادية به، بعد إقالة قادة المجلس العسكري السابق (طنطاوي/عنان) أثناء رئاسة د.محمد مرسي.
ولما كان مركز قوته الحقيقي يتأثر بخلع الزي العسكري، نجده ما زال متأخرا في إعلان الاستقالة من وزارة الدفاع. فالمسافة بين ترك كرسي الدفاع، وبين الجلوس على كرسي الرئاسة، هي المسافة الخطيرة، التي يكون فيها أضعف ما يمكن، فتمكن إزاحته.
وإذا تذكرنا أنه أزاح كل شركاء الانقلاب (البرادعي نموذجا) إلا من يكون تحته (عمرو موسى نموذجا). ثم تذكرنا النصيحة التي قُدمت له من الراعي المالي للانقلاب (الإمارات) بالبقاء في الوزارة، وعدم الترشح للرئاسة. ثم تذكرنا الدور الأمريكي الذي يربط بين كل خيوط الانقلابيين، في الداخل والخارج (بما فيهم القيادات العسكرية، الذين هم تحت السيسي). إذا تذكرنا كل ذلك أدركنا جزءا من أسباب الخوف التي تُرجمت إلى تأجيل خلع الزي العسكري، ومحاولة البحث عن أيّ سند إضافي ممكن (الزيارة المهينة لروسيا نموذجا).
ثانيهم :
الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء للمخلوع مبارك، والممثل لدولته العميقة (بعد هلاك رئيس الدولة العميقة : عمر سليمان، مدير المخابرات العامة) وقد احتشدت خلفه بقايا دولة المخلوع بكل إمكاناتها، حتى كان المنافس الأكبر في الانتخابات الرئاسية السابقة، وتفوّق – بعد الثورة – على كل المرشحين الرئاسيين الذين كانوا معارضين لدولة مبارك، باستثناء الرئيس د.محمد مرسي – فك الله أسره – الذي تقدم على شفيق بفارق غير كبير.
ومراكز قوته الحقيقية ثلاثة
: الأول : جناح في المخابرات العامة (حيث يوجد شقيقه) وهؤلاء كان لهم دور واضح أيام الانتخابات الرئاسية (في توجيه وتهيئة الرأي العام).
الثاني : عصابة الحزب الوطني (حيث يعتبرونه ممثلا لهم، وامتدادا لما قبل الثورة عليهم) بما تشمله من ثقل (سياسي/اقتصادي). الثالث : مصدر التمويل الإماراتي، حيث يقيم منذ خسر الانتخابات الرئاسية.
لقد كان شفيق يدير الحراك الانقلابي من البداية، وحتى ما قبل النهاية (مكالمته مع محمد إبراهيم، وزير داخلية د.مرسي حينها، نموذجا). لكن عصابة مبارك الاقتصادية قد تنحاز للسيسي في حال فوزه، فهم مع من يؤمّن لهم بقاء إقطاعياتهم. والإمارات حريصة على يقاء الانقلاب وعدم عودة الإسلاميين للحكم، أكثر من حرصها على وصول شفيق للرئاسة.
لذا يتجنب شفيق أي اشتباك علني مع السيسي (وإن كان يرى أنه قد سرق منه الانقلاب) ويفضل الاستمرار في الخط المؤامراتي داخليا (كما في خطاب عدد من الإعلاميين ذوي العلاقات بالمخابرات، كنموذج) وخارجيا (كما في تصريح الإمارات، كنموذج) طمعا في الوصول إلى الرئاسة.
ثالثهم : الفريق سامي عنان، الرجل القوي في المجلس العسكري الذي تولى بعد مبارك، وقائد الأركان الذي عاد من أمريكا أيام ثورة يناير، والذي اختفى عن المشهد السياسي منذ أحاله الرئيس د.محمد مرسي للتقاعد، وحتى استقال من منصب مستشار الرئيس قبيل الانقلاب، ثم عاد ليظهر بعده كمنافس على الرئاسة.
ونقطة ضعف عنان هي المنتجة لنقطة قوته، فهو لا يمثل كتلة بعينها، لكنه يقدم نفسه كنقطة مركزية يمكن أن يجتمع عليها الجميع، وأن تمثل حلا لكل المشكلات، وبالتالي فهو يعتبر توازنات القوى واحتدام الأزمات وطول الوقت، كل ذلك مما يصب في صالحه.
فعلى مستوى الداخل، يوجه خطابه للإسلاميين بأنه من أعطاهم الحرية في فترة المجلس، ومن سلمهم الرئاسة بعد الانتخابات. وبالتالي فهو يقبل بوجودهم وشراكتهم، ويمثل صمام أمان من الاستئصال الذي يواجهونه منذ الانقلاب. ويوجه خطابه للعلمانيين بأنه صاحب المبادئ فوق الدستورية، ومتبني فكرة حماية الجيش لعلمانية الدولة، فهو سيحقق لهم مرادهم بمنع إسلامية الدولة وحراسة علمانيتها. ويوجه خطابه لفلول مبارك، بأنه من تجاوز بهم مرحلة الثورة بأمان، وحافظ لهم على وجودهم وقوتهم داخل الدولة. ويوجه خطابه للكتلة الطائفية بأنه راعي امتيازاتهم، وحامي وجودهم بتجنيبهم أن يكونوا طرفا في صراع طائفي، قد يكونون ضحاياه. ويوجه خطابه للمؤسسة العسكرية بأنه أولى الناس بها وبالمحافظة على مكتسباتها، وتاريخه بها وعلاقاته داخلها تجعله رمزا مقبولا منها.. وهكذا.
وعلى مستوى الخارج، فهو صاحب العلاقات القوية مع أمريكا الراعية للانقلاب، ويحقق لهم الصورة الأقرب للمطلوب حيث الرئيس المدني (ذو الخلفية العسكرية)، والعلماني القادر على احتواء الحالة الإسلامية، والانقلابي الذي يصبغ وجه الدولة بالديمقراطية، والحلّ الذي يغسل جرائم الفترة الانقلابية مع المحافظة على مكتسباتها.
وفي النهاية..
فهذا توصيف لتلك المراكز المتنازعة، وليس لكل مكونات الواقع المصري. ولعل ما يُلقَى بينهم من صراع، مقابل ما يجمّع الحالة الإسلامية من تحديات، يكون له ما بعده، مما يخيب ظنّ كل من دعم الانقلاب وتوهم نجاحه.. ” وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ “
التعليقات