كان وصول الإسلاميين للرئاسة في مصر بمرشحهم د.محمد مرسي حدثا ضخما بكل المقاييس. فقد عاشوا قبل ذلك عقودا طويلة تحت قهر زائد من الأنظمة المستبدة، من الملكية إلى الجمهورية. ومورست ضدهم أشنع الوسائل العدوانية من الهجوم الإعلامي الذي يلصق بهم كل نقيصة، إلى السجن الطويل والقتل الكثير.
ذلك أن الإسلاميين هم من مثلوا الامتداد الحقيقي للأمة، دينيا وحضاريا. بينما مثلت الأنظمة المستبدة دور المندوب للاحتلال الأجنبي، بثقافته وقانونه وحتى بعصاه الغليظة التي تسحق من تحت سلطانه.
وعندما فرض الإسلاميون أنفسهم على الساحة كرقم لا يمكن تجاوزه، وفشلت سياسة الاستئصال، كان التعامل معهم عبر سياستي التحجيم والاحتواء، في مساحات تتفاوت، لكنها تبقى داخل نفس السياسة، لمنع وصولهم إلى دوائر صنع القرار في بلادهم.
ثم قامت الثورة المصرية، وخرج الإسلاميون منها بأعلى رصيد شعبي، في معادلة أزاحت رأس السلطة الذي ناصبهم العداء لمدة ثلاثين سنة. فهل كانوا يطمحون في الوصول للرئاسة؟ وهل أخذوا الأسباب للحفاظ عليها إذا وصلوا؟ أم أنهم أخطأوا حين رفعوا سقف مطالبهم فقضى الانقلاب العسكري عليها كلها؟
كحقيقة للتاريخ، ينبغي أن نقر أن القيادات التقليدية للإسلاميين “إخوان، وسلفيين، وجهاديين ” لم يكونوا يتوقعون مساحة الحرية التي فتحت لهم، ولا تلك الفرصة النادرة لتحقيق مشروع الدولة الإسلامية. بل توجسوا من اقتحام المنافسة الحقيقية على منصب الرئاسة، فتم الترويج لفكرة “الرئيس التوافقي” برعاية “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح”.
لكن متغيرا لم يكن في الحسبان، تسبب في تغيير كل الحسابات المتعلقة بالرئاسة. لقد برز على الساحة التيار الإسلامي الثوري، بقاعدة سلفية متنامية، ورموز شبابية صاعدة، وتشكيلات ظهرت مع الثورة، وتوج ذلك بتقدم أ/حازم أبوإسماعيل على رأس كل هؤلاء كمرشح رئاسي، يعلن راية الشريعة الإسلامية، ويحسن عرضها ويفحم خصومها.
لقد كان هذا المتغير صادما للجميع، للمجلس العسكري الذي ورث دولة مبارك، وكان هذا التيار بالنسبة له خارج دائرة التفاهمات والمساومات، بل كان هذا التيار معارضا أساسيا للمجلس العسكري. وللعلمانيين الذين كشفت أجواء الحرية عن حجمهم الحقيقي في المجتمع، وأفزعهم قوة الطرح الإسلامي الثوري. وللقيادات الإسلامية التقليدية، والذين فوجئوا برفع سقف الأهداف، وبانحياز أكثر القواعد الإسلامية للمشروع الإسلامي الثوري، بل وباكتساح شعبية هذا الخطاب للشارع المصري عموما. فصارت كلمة “الرئيس التوافقي” سبّة، بعد أن هاجمها الإسلاميون الثوريون، ورفضها جمهور الشارعين الإسلامي والعام.
وبعد تفاصيل كثيرة، وصل د.محمد مرسي إلى الجولة الثانية ممثلا كل الإسلاميين خاصة والثوريين عامة، ضد الفريق شفيق ممثلا كل عصابة المخلوع في الدولة والمجتمع. ومع أنه حصل حشد قوي لصالح د.مرسي إلا أنه كان هناك أمران خطيران :
أولهما : حصول حشد مقابل للفريق شفيق ليس بالقليل، مما دلّ على قوة وجود وتأثير عصابة مبارك في الدولة والمجتمع، رغم الثورة والتنحّي.
ثانيهما : بقايا الانكسار النفسي لدى أكثر القيادات الإسلامية التقليدية، بحيث كانوا مؤهلين لقبول نتيجة مزورة تقصيهم من الرئاسة (وقد قبلوا إقصاء أ.حازم من قبل، ومرروا ممارسة الاستبداد ضد أنصاره في العباسية). وكانت القواعد ستستجيب للانكسار، فقد كانوا حديثو عهد بالاستبداد.
إلا أن القدر الرباني غالب، فتم تأجيل الانقلاب على الثورة وذبح الإسلاميين. وظنوا أنهم بتوريطهم في رئاسة يظهرون فشلها، سيحققون الأهداف التالية :
الأول : عزل الإسلاميين عن الحاضنة الشعبية الكبيرة
والتي أظهرت دعمها لهم بعد الثورة. مما سيسهل تصفيتهم، دون أن يبكي عليهم أحد.
الثاني : ترك خبرة سلبية واقعية عن حكم الإسلاميين
لإجهاض أي محاولة لهم تالية. كنوع من محاولة تأمين المستقبل للعلمانيين.
الثالث : معاقبة الشعب على الثورة
وإعادة تأهيله للقبول بالاستبداد مرة ثانية (تطبيقا لحكمة مبارك المشئومة : انا أو الفوضى) فيترسخ عند العامة أنه لا حياة لنا إلا تحت الاستبداد.
وللأسف لم يحسن المتصدرون إدارة الصراع، لا الرئيس، ولا القيادات الإسلامية التقليدية. بل إنهم لم ينتفعوا بنصائح التيار الإسلامي الثوري، والذي أثبتت الوقائع قوة منطلقاته، وصواب رؤيته. وتحقق للعصابة المجرمة أكثر ما أرادت، فتوجت نجاحها بالانقلاب العسكري 3يوليو.
لكن ما غاب عن الانقلابيين حقا هو ما استفدناه من حكم د.مرسي ، وهو :
أولا : بقدر ما خسر الإسلاميون على مستوى الخارج (خارج التيار) بقدر ما ربحوا على مستوى الداخل (داخل الإسلاميين أنفسهم) فقد حكم منهم رئيس لمدة عام، فزال انكسارهم أمام دائرة صنع القرار، وصار الرئيس الإسلامي واقعا معاشا، وحقا مكتسبا.
ثانيا : ترتب على السابق، استعداد الإسلاميين للصمود ببسالة أمام إزاحتهم من الرئاسة. فقد صُدِم الانقلابيون من صمود د.مرسي ضدهم، وصُدِموا أكثر من صمود قواعد الإسلاميين ضدهم في الميادين والشوارع لأكثر من ستة أشهر.
ثالثا : وبناء عليه، بدلا من أن تنكسر الحالة الثورية أمام الاستبداد، فقد اشتعلت واتسعت دائرتها، وصار ما يضاف من دماء الشهداء، وآلام المصابين والمأسورين، زيادة في وقود الثورة.
رابعا : إن الجماهير التي تم استغفالها وإبعادها عن الإسلاميين، كما اتسمت بسهولة الابتعاد عنهم، اتسمت – في أكثرها – بسرعة العودة إليهم، وغسل ثبات الإسلاميين وبسالتهم أمام إجرام الانقلابيين، ما سبق من أخطائهم في نظرهم.
أخيرا ..
فأنا لا أدافع عن أخطاء لطالما أدنّاها، وحذرنا منها في حينها. لكنني أردت أن تتزن النظرة، ونحسن التقويم، ونراعي نقص واقعنا الذي قد لا ينجبر إلا بالآلام، ونستشرف لمستقبل أفضل، يحافظ على ما سبق من مكتسبات، ويبني عليها المزيد .. وهو آتٍ .. ننتظره، ونسعى إليه.
التعليقات