في البداية قد يتوهم البعض أن هذا العنوان مستفز ومبالغ، أو أن فيه بعض التجني مما اعتاد الخصوم أن يفعلوه بعضهم مع بعض، لكن مع الاسترسال والاستمرار وتتابع تسلسل العناوين وتدفق الأفكار ستفاجأ أنك أمام تشابه لطيف وخفي بين نموذجين يبدوان من بعيد قمة في التعارض والاختلاف.
تشابهت أسماؤهم
بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الأرثوذكسية، هكذا يُعرف راعي الكنيسة المصرية الأكبر، وعندما تفتش عن معاني هذه الكلمات يتجلى لك أوجه التشابه بين هذين النموذجين؛ فالكرازة معناها الدعوة، أما الأرثوذكسية فتُفسَّر بالأصولية والرجوع لأقوال آباء الكنيسة الأول؛ أي ما يمكن أن نترجمه بالسلفية، أي أن الترجمة الإسلامية للكرازة الأرثوذكسية هي “الدعوة السلفية”.
الجغرافيا أيضًا جامعة
تعتز الكنيسة المصرية بالإسكندرية، وتعظمها باعتبارها مركز دعوتها التاريخي، وموطن قادتها منذ دخول المسيحية المبكر في هذه البقعة من الأرض، مما يجعل لها في حس أتباعها من المكانة والتعظيم ما ليس لغيرها حتى مع كر العصور وتغير الدهور.
ونفس الحال عند أتباع الدعوة السلفية، نجد الإسكندرية مهوًى للأفئدة، و”مشايخ” الإسكندرية لهم أعظم منزلة، حتى أصبحت قبلة لكل مريد، ومشايخها مرجعية فيما يعرض من جديد.
بين مرقس وبرهامي
المرقسية نسبة إلى مرقس، وهو واحد من أتباع عيسى -عليهِ السَّلام- الذي قيل: أنه أدخل المسيحية إلى مصر؛ لذلك سُميت الدعوة باسمه، وانتسبت الكنيسة القبطية إليه باعتبارها خليفة دعوته، في المقابل نجد التيار السكندري يزعم ويشيع بين أتباعه أن مشايخ الدعوة وعلى رأسهم برهامي هو من ورث السلفية وأدخلها في ربوع الديار المصرية، حتى كادت أن تُنسب الدعوة إليهم، وهو ما جعلنا نعنون مقالنا هذا بـ “الكرازة البرهامية” قياسًا على الكرازة المرقسية.
من الظاهر إلى المضمون
إن كان ما سبق هو أوجه للتشابه الشكلي الذي قد يستحضر معه بعض الظرفاء التشابه الشكلي بين تواضروس وبرهامي، فإننا سنخوض في محطاتنا القادمة أعمق لنكشف عن بعض أوجه التشابه في جوهر النموذجين.
احتكار الحق منهجهم
تعتبر الكنيسة المصرية نفسها أنها الممثل الوحيد للمسيحية، وأنها الامتداد التاريخي الصحيح لما عليه الآباء الأول (السلف)، ولا ترى أن سواها من الطوائف المسيحية بشيء.
وكذا تعتبر الدعوة السلفية بالإسكندرية نفسها أنها الممثل الشرعي الوحيد للسلفية، وأنها وحدها هي الحق، وأن من لم يدُر في فلكها فليس بسلفي خالص، حتى انتشرت بينهم مقولة “من لم يدرس المنة فليس منا”، والمنة إشارة إلى كتاب منة الرحمة في نصيحة الإخوان، وهو كتاب جمع بعض مسائل العقيدة والمنهج للدكتور ياسر برهامي. وبذلك تحولت السلفية من منهج للتجديد، ودعوة للرجوع للإسلام الصافي الذي عرفه الصحابة والتابعون وأئمة المذاهب المشهورة التي تلقتها الأمة بالقبول، تحولت السلفية من منهج يقترب من الناس ويبتعدون ويأخذ كل منهم حظًّا كثر أو قل، إلى حزب تعقد على الدخول فيه والخروج منه أو موافقة ومخالفة ألوية الولاء والبراء، ولأن الأسماء غالبًا ما تدل على مدلولاتها، فإنا نلمح منهجية احتكار الحق في أسماء مشاريع الدعوة السلفية، فعلى سبيل المثال يجمل موقعهم على “النت” اسم “أنا السلفي” بألف ولام التعريف بما توحيه من مدلول بأنا السلفي الوحيد، أما “سفينة النجاة” فليس سوى اسم لأسرة طلابية في الجامعة، ولكنك تستحضر معها نوحًا وهو يقول لابنه ﴿ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ [هود:42].
هالات وتخوم … هنا وهناك
مظاهر القداسة لرؤوس الطائفة والقيادة المعصومة من السمات المشتركة لدى الطائفتين؛ فالكنيسة الأرثوذكسية بطبيعة الحال تضفي هالة من القداسة والقدسية على من يكون على رأسها حتى إنه يتكلم فيها باسم الرب.
أما عند الدعوة السلفية فإنها وإن لم تدع العصمة والقداسة نظريًّا، لكنها تعطيها لرؤوسها عمليًّا، وتشرعن لهذه الممارسات بمقولات من قبيل “لحوم العلماء مسمومة، هذا مع ادعائهم الفارغ للعلم وحصرهم العلماء في دائرة شيوخهم. أمَّا لو حدث وانتقدت رأيًا أو مسلكًا لأحد شيوخ الدعوة فلا تنتظر من الأتباع إلَّا اللعنات التي تصب فوق رأسك وتلاحقك حيث حللت وأينما ارتحلت، فإن شككت في كلامي فإنَّك لا تحتاج لكي تصدقني إلَّا أن تخوض مثل هذه التجربة وستلقى ما يسرك.
مع الهراطقة … المعركة مستمرة
وكنتيجة طبيعية لدعوة احتكار الحق فإنّ الكنيسة الأرثوذكسية تعتبر أي اختلاف مع نظرتها أو خروج عن جماعتها هرطقة؛ أي بدعة يستوجب صاحبها اللعنة والطرد من الرحمة، وأن المخالفين لآرائها والخارجين عنها هراطقة أو مبتدعة لا بد من التحذير منهم.
فإذا تخطينا إلى الجانب الآخر نجد تبديع المخالف سمة مميزة ووسم الناس بالأوصاف البدعية سلوك دائم، فهذا خارجي وذاك مرجئ، وتلكم الجماعة توقف إلى غير ذلك من الأوصاف، بل إن طريقتهم في عرض العقائد مبنية على تقسيم الناس وتصنيفهم، لتظل ساحتهم هي الساحة البيضاء النقية، أمّا من سواهم فيحذر منهم ويُهجرون ويعادون.
استراتيجية تقديم الخصوم المحليين
من السمات المميزة للكنيسة الأرثوذكسية بشكل عام اعتناؤهم بمخالفيهم الذين هم في إطارهم المحلي أكثر من غيرهم، فالبيزنطيون انشغلوا قديمًا بالسلاجقة الأتراك، والروس منشغلون بالترك والتتر والشيشان الأنجوشي، والصرب منشغلون بالبوسنويين، والأحباش منشغلون بجيرانهم، وكذا الكنيسة القبطية منشغلة بالغزو العربي كما يسمونه، هذه السمة لن تجدها في الكنيسة الغربية الكاثوليكية راعية الحروب الصليبية، والتي تتشح بالسمة العالمية، وتنتصب للمشاريع العابرة للحدود.
وبالمثل فإن أغلب القضايا التي تعطيها الدعوة السلفية أهمية، والجماعات التي تعني بالصدام معهم هم الذين يقتربون من إطار الدعوة الجغرافي ويتشابهون مع أسسها الفكرية ويتداخلون مع قواعدها البشرية، بغض النظر عن خطورة وانحراف مناهج هذه الجماعات، فالصدام مع الدوائر الأقرب فكريًّا وواقعيًّا أولى مِن مَن هم أبعد في هذين المجالين، فالقبطيون والسروريون وحزب الله (جماعة جهادية سكندرية قديمة) هم محط اهتمام الدعوة السلفية أكثر من غيرهم الذين هم أكثر بعدًا في مناهجهم العلمية والعملية.
حياة الجيتوهات
الكنيسة المصرية منذ قيادة شنودة لها أخذت منحنى سياسيًّا ورحًا انفصالية، وباتت نظرتها لمجتمعها المصري ذي الأغلبية المسلمة –والتي عاشت معه واندمجت فيه لقرونٍ عدة- نظرة المفارقة والمغايرة، وبثّت الزعامة الكنسية الجديدة في شعبها روح المظلومية وأجواء الاضطهاد لمن يعتبرون أنفسهم السكان الأصليين للأرض والعداء لما يسمونه بالغزو العربي الدخيل، وقد توهمت الكنيسة أنها بتعزيز هذه الروح تحافظ على تماسك شعبها من الاندماج والتحلل في النسيج الاجتماعي الأكبر، كما تحافظ على اصطفاف الشعب خلف قيادتها ذات الأطماع السياسية والتي لم تقنع بكفاية دورها الديني فقط، هذا ما جعل الكثير من المسيحيين الأقباط الأرثوذكس في مصر يعيشون في عزلة مجتمعية، وحياة غير منفتحة في الحقيقة، وفي دوائر ضيقة اجتماعيًّا وفي بعض الأحيان جغرافيًّا، كجيتوهات اجتماعية أو مجمعية سكنية مغلقة، هذه الحقيقة تبدو واضحة وإن حاول البعض الظهور بخلافها.
ونفس الأمر يسطع جليًّا في خطاب الدعوة السلفية، فمن تحيز عن المجتمع براية “أنا السلفي” وحول السلفية من منهج يدخل في عموم غالب الناس وجمهرة أهل العلم، إلى حزب وفئة وطائفة محدودة معدودة تتميز عن غيرها من عموم المسلمين، من فعل هذا لا بد أن ينفصل عن عموم المسلمين ومجموع الأمة، والمتأمل لخطاب مشايخ الدعوة السلفية يجدهم وكأنهم يتحدثون باسم الأقلية السلفية في مصر، وهو خطاب يعنى بقضايا وشواغل ومشاكل واهتمامات السلفيين خاصة دون هموم عموم الناس واحتياجاتهم.
وكلاهما خدم لقيصر
سياسة الأخذ والعطاء وتقديم خدمات لنظام مبارك المستبد مقابل منافع جزئية فئوية هو منهج مشترك لدى الطائفتين الأرثوذكسيتين.
فالكنيسة الأرثوذكسية أوقفت ضغوط أقباط المهجر في مقابل حصولها على امتيازات طائفية، كما أنها أيّدت نظام مبارك الاستبدادي الذي نهب ثروات الشعب المصري، ثم كانت ضد ثورة يناير شاقة نسيج المجتمع المصري ومحادة له.
أما دور الدعوة السلفية في دعم وخدمة النظام فهو دور واضح منذ البدايات؛ حيث اضطلعت بدور الطاعن في خصوم النظام، خاصة الإسلاميين منهم، فكان إذا نشب اشتباك بين الجهاديين والنظام سارعوا بنزع الشرعية عن أعمالهم، أما إذا عزم الإخوان على منازعة النظام سياسيًّا عبر الانتخابات حرّموا المشاركة فيها وحدّوا القواعد المتدينة عن دعم مرشحي الإسلاميين، ولو وقعت أحداث فتنوية هموا بنزع فتيلها لا بدافع وأدها بقدر ما هو إرضاء للنظام، ثم إن ليس أظهر من توافق موقفهم مع موقف الكنيسة إبان ثورة يناير التي جعلوها فتنة، وحرموا على الناس المشاركة فيها ومنعوا أتباعهم من ذلك.
يحيا الهلال مع الصليب
لم تكن ثورة يناير هي المحطة الأخيرة التي يتوافق فيها موقف الطائفتين، ففي مشهد من مشاهد الكوميديا السوداء تجمع الصورة بين ممثل الكنيسة وممثل الدعوة السلفية في خلفية بيان يوليو الشهير، فعلى الرغم من التصريحات المصادمة وغير الناضجة التي تصدر عن بعض مشايخ الدعوة السلفية تجاه النصارى، ومع الموقف الحاد الذي تبديه الكنيسة من التيار السلفي، والتلاسن الذي يطفو على السطح بينهما من وقت لآخر، إلّا أن دعم الانقلاب العسكري الدموي قد وحد بين الطائفتين تحت راية “إيد واحدة ضد إرادة الشعب الحُرة”.
هل فازت الطائفة أم خسرت؟
لقد قدّمت قيادات الكنيسة مصالحها الخاصة على مصالح عموم المسيحيين، واستأثرت بمكاسب كهنوتية ضيقة، وضحّت بقوت شعبها وحريته وكرامته من أجل تشييد كنائس لا تجد لها مرتادين، ثم تعود لتلقي بالفتات لأولئك الضحايا من أبنائها الذين لم يجدوا الغذاء والكساء والسكن الكريم بعد أن سلبهم الاستبداد ما سلبه من بقية فئات المجتمع المصري، وهذا جرم في حق المسيحيين لا يقل بشاعة عن جرم نزعهم من نسيج مجتمعهم الذي هو أولى بهم وإلقائهم في حضن بل براثن الاستبداد ليستغلهم ثم يفتك بهم وهو يفتك ببقية الشعب.
أما أبناء الدعوة السلفية فأمامهم الأيام لتكشف لهم هل سيعيشون في حرية وسعة أم سينالهم ما ينال غيرهم من المتدينين من التضييق والمنع والملاحقة؟ هل سيحتفظون بمنابرهم وأنشطتهم الدعوية أم ستُسلَب منهم وتُصادر وتمنَع دعوتهم وتُلاحق؟ بل هل سيتاح لهم فرصة الوصول بأعداد كبيرة لمقاعد مجلس الشعب والشورى، أم أن أقدامهم لن تطأ هذه الأماكن أو تعرف طريقها مرة أخرى؟ وأهم من ذلك كله … الأخت التي لم تجد سيارة أجرة “تاكسي” ترضى أن تقف لها لتوصلها إلى منزلها، هل وجدتها أخيرًا، أم أن قد وصلتها سيارة الشرطة “البوكس” وأخذتها إلى الحجز في قسم الشرطة؟
التعليقات