واجب المستضعفين

في الوقت الذي تعيش فيه طوائف من المستضعفين من هذه الأمة تحت قصف المدافع ، وبينما تلتهب الأرض المباركة بنيران الأعداء . في نفس هذا الوقت ، تعيش الأمة كلها تحت قصف خطاب التخذيل ، وتلتهب صدور الحيارى بحثاً عن مخرج مما آل إليه حال أمتنا ، ومما يصيبها من المظالم والمحن الكبار …

خطورة خطاب التخذيل

ولا أراني مبالغاً إن قلت إن قصف الأفكار والمشاعر بالخطاب المخذل ، كان ولا يزال هو الأشد إيلاماً ، والأكثر تدميراً ، لأنه ينزل على القلوب والأرواح ، فيدك بوابات الأمل بفرج قريب، ويزلزل من حقائق هذا الدين ما ينبني عليه العمل الجاد ، لنصرة دين الله والمستضعفين .

إذ يراد لهذه الأمة عامة، ولمقدمتها من العاملين للإسلام خاصة، أن يرضوا بالتعايش مع الباطل، من الكفر والظلم والعدوان، في ظل عولمة الحرب على الإسلام، بل أن يقنعوا بالفتات من الحقوق والمكتسبات – إن نالوها – ، وإلا فليهرعوا إلى زوايا خفية، يبكون أو يدعون، ولينتظروا – إن شاءوا – فرجا أو نصرا سماويا خالصا. فإنه لا أمل للمستضعف، ولا عمل، إلا الاستسلام والكسل، أو مداهنة الباطل ليسمح لنا بحياة ما … ويا لها من حياة !..

فرقان الوحي عبر الزمن

ومع قدم تاريخ استضعاف الفئة المؤمنة في حياة البشرية ، حتى يكون بعث النار ” من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، وينجو واحد ” (1) وكما أخبر النبي r في حديث عرض الأمم : “فرأيت النبي ومعه الرجل ، والنبي ومعه الرجلان ، والنبي وليس معه أحد ...” (2) مع كل ذلك ، فإن الوحي ما كان ليتركنا دون بيان للواجب على المستضعفين من المؤمنين ، لتتحقق لهم النجاة التي ينشدونها في الدنيا والآخرة .

إن القرآن الكريم ، وهو الذي جعله الله فرقاناً بين الحق والباطل ، من القضايا والأشخاص ، ومن المواقف والأحداث ، قد قسم تاريخ استضعاف المؤمنين إلى مرحلتين كبيرتين :

المرحلة الأولى : مرحلة الفرار بالإيمان .

وهذه المرحلة تمتد زمانياً من بعثه نوح ، إذ هو أول رسول إلى الكفار ، ومعه كانت أول فئة مؤمنة في ظل استضعاف من أمة كافرة . وإلى إنزال التوراة على موسى u.

في هذه المرحلة، كلما كان الناس يكفرون، كان الله يرسل الرسل، ليجددوا الدعوة إلى الدين الحق، فتستجيب فئة مؤمنة، وقد كان ولا يزال المؤمنون عبر التاريخ قلة، كما أخبر النبي فيما سبق من الأحاديث .

وقد كان الواجب على المؤمنين في هذه المرحلة ، الانحياز إلى الإيمان وأهله ، والدعوة إليه والثبات عليه . حتى يفصل الله بينهم وبين عدوهم ، فتكون نجاتهم بأسباب متنوعة ، ويكون إهلاك أعدائهم واستئصالهم بالقدر الرباني الخالص ذي الصور المتنوعة أيضاً، لكن دون أن يكون للمؤمنين دور في هذا الإهلاك .

المرحلة الثانية : مرحلة دفع المؤمنين .

وهذه المرحلة تبدأ بإنزال التوراة على موسى ، وتمتد إلى آخر الزمان .

فتكون نجاتهم ويكون إهلاك عدوهم بأيدي المؤمنين . فصار المؤمنون هم قدر الله الغالب

والواجب على المؤمنين في هذه المرحلة ، الانحياز إلى الإيمان وأهله ، والدعوة إليه والثبات عليه ، وجهاد أعدائهم . حتى ينصرهم الله على عدوهم ، فتكون نجاتهم ويكون إهلاك عدوهم بأيدي المؤمنين . فصار المؤمنون هم قدر الله الغالب ، الذي به يحقق سنته في خلقه . فهم أداة إنقاذ المظلومين ، وهم أداة تعذيب المجرمين .

سمات المرحلة الثانية

في هذه المرحلة بقي عندنا شيئان، وتغير شيء: بقيت عندنا: سنة استضعاف الفئة المؤمنة كقدر جار في العباد، وبقي عندنا: قدر إهلاك المكذبين المجرمين، كجزء من الجزاء العادل، الذي يجريه الله في الدنيا تقدمة لما يقوم في الآخرة . وتغير شيء: لم يبق دور الفئة المؤمنة فقط هو أن تؤمن، ثم تنجو بنفسها، والله يتولى أمر أعدائها، إنما صارت الفئة المؤمنة هي هذا القدر الغالب، وهي يد الله التي يعذب بها أعداءه في الأرض، ولذلك قال الله آمراً المؤمنين ) :قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) فأمضى الله سنته في تعذيب أعدائه، لكن ذلك صار بأيدي أوليائه. كما قال ـ عز وجل ـ لنا : ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) (3).

الأدلة القرآنية

لهذا ذكر الله – تعالى – في سورة ” المؤمنون ” قصة نوح u مع قومه كأول نموذج للمرحلة الأولى ، فذكر الدعوة إلى الإيمان ، ومن ثم افتراق الناس إلى مؤمنين وكفار ، ثم إنجاء الله – سبحانه وتعالى – للمؤمنين المستضعفين ، وإهلاكه – عز وجل – للقوم الكافرين بقدره الرباني الخالص.

وأتبع هذه القصة بقصة قوم مبهمين ، جرى فيهم ما جرى في قصة نوح u فكان إبهام الشخوص والزمان والمكان إشارة إلى استقرار السنة الربانية ، دون أن يكون لشيء مما أبهم أثره فيها وجوداً أو عدماً . ثم أكد اضطراد هذه السنة فيمن بعدهم فقال – سبحانه – : ( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ. مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) (4) فجمع كل من جاء بعد ، وأخبر عن سنته فيهم (  ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ) أي : متتابعين ، يدعون الناس إلى الإيمان ، والانحياز إليه وإلى أهله ( كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ) ” فلم يزل الكفر والتكذيب ، دأب الأمم العصاة ، والكفرة البغاة ، كلما جاء أمة رسولها كذبوه “(5) ( فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا ) “بالهلاك ، فلم يبق منهم باقية ، وتعطلت مساكنهم من بعدهم ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ) يتحدث بهم من بعدهم، ويكونون عبرة للمتقين ، ونكالاً للمكذبين ، وخزياً عليهم مقروناً بعذابهم ” (6) ( فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ) (7)  .

ثم قال ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُون بِآيَاتِنَا وَسُلْطَان مُبِين) وإلى قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(8) في إشارة واضحة إلى أن إرسال موسى u كان إرسالا مختلفا ، إذ أنزلت في ظله التوراة ، وختمت مرحلة الفرار بالإيمان، وبدأت مرحلة دفع المؤمنين .

وقريب من هذا السياق ، ويدعم دلالته ” ما ذكر الله في سورة يونس من قوله : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ ) أي : من بعد نوح ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ. ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ (9) الآيات . والله أعلم. “(10).

اللحظة الفاصلة بين المرحلتين

  أما ضبط هذا الحد الزمني الفاصل بين المرحلتين ، وهو إنزال التوراة على موسى u ، فقد جاء في سورة القصص في قوله – تعالى -: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(11) قال الإمام الحافظ ابن كثير– رحمه الله – في تفسيره : ” وقال – تعالى-: ( مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى ) يعني أنه بعد إنزال التوراة ، لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين” (12). فبعد إنزال التوراة ، لم يهمل الله شأن الناس ، ولم يترك الظالمين المعتدين، إنما كلف المؤمنين أن يكونوا هم أداة تعذيب هؤلاء الكافرين .

  لذا قال العلامة السعدي – رحمه الله – في تفسير آيات سورة “المؤمنون” المذكورة: ” مرَّ عليّ منذ زمان طويل ، كلام لبعض العلماء … وهو أنه بعد موسى ونزول التوراة، رفع الله العذاب عن الأمم ، أي : عذاب الاستئصال ، وشرع للمكذبين المعاندين الجهاد. ولم أدر من أين أخذه ، فلما تدبرت هذه الآيات، مع الآيات التي في  سورة “القصص” تبين لي وجهه . أما هذه الآيات ، فلأن الله ، ذكر الأمم المهلكة المتتابعة على الهلاك ، ثم أخبر أنه أرسل موسى بعدهم ، وأنزل عليه التوراة فيها الهداية للناس،… وأما الآيات التي في سورة “القصص” فهي صريحة جدا، فإنه لما ذكر هلاك فرعون قال : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(13) فهذا صريح أنه آتاه الكتاب بعد هلاك الأمم الباغية . وأخبر أنه أنزل بصائر للناس ، وهدى ورحمة ” (14) .

الأمة الشاهدة للمرحلتين

وشهد بنو إسرائيل مع موسى u هاتين المرحلتين ، فكان إهلاك فرعون وجنده ختام المرحلة الأولى ، فلا يعترض به على ما ذكرنا من شأن المرحلة الثانية . وهذا ما قرره العلامة السعدي قائلا : ” ولا يرد على هذا ، إهلاك فرعون ، فإنه قبل نزول التوراة “(15) وكان أمرهم بدخول “الأرض المقدسة” هو أول تطبيق عملي لسنة المرحلة الثانية، إذ أُمِروا أن يدخلوها بالجهاد في سبيل الله ، وأن يدفعوا أعداء الله .

لكن بني إسرائيل ، وهم أول فئة مؤمنة ، تطالَب بإنفاذ سنة دفع المؤمنين للكافرين ، طلبوا أن تستمر فيهم السنة القديمة ، فقالوا لنبيهم الكليم الكريم : ( فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ) (16) أي: كما أهلك ربك لنا فرعون وجنده ، ولم ندفعهم بشيء من أيدينا ، كذلك فليهلك لنا هؤلاء الجبارين الكافرين ، ونحن ندخل الأرض المقدسة . بل بلغ بهم الضعف والجبن أن قالوا : ( إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ) (17) قبل طلبهم السابق ، كالتعليل له ، وبئس التعليل …

فهل قبل منهم ذلك ؟!… إن الله ـ عز وجل ـ لم يقبل منهم ذلك ، وهم في المرحلة الثانية ، ولم يهلك لهم أعداءهم الكافرين ، بل عذبهم ، فكتب عليهم أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة ، عقوبة لهم، لا لأعدائهم .

عاقبة التخاذل عن واجب الدفع

تبين من ذلك أن من سلك سبيل هؤلاء، وجبن عن الدفع في ظل هذه المرحلة، نالته أمور ثلاثة :

الأول : يبقى العدو، ويبقى إفساده في الأرض أو يزيد

ولا يهلك عدوه ، مهما انتظر، ما دام لم يقم بالواجب عليه. قال – تعالى -: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) (18) وقال: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) (19) فلابد من هذا .

الثاني : تعذيب المتخاذل في هذه الحياة الدنيا

فمن فر من ألم في الطاعة، عوقب بألم أشد في المعصية . قال – تعالى -: ( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ) (20) فإنه لا بد من عذاب ـ لا للظالمين ـ ولكن للمؤمنين، الذين ظلموا أنفسهم، لما لم يقوموا بالواجب عليهم، بالدفع عن دينهم، وعن المستضعفين من أمتهم، لأن الله عاقب بني إسرائيل، ولم يهلك – مع تخاذل بني إسرائيل – الجبارين، فبنو إسرائيل هم الذين تاهوا أربعين سنة في الأرض، جزاء جبنهم وتفريطهم وتقصيرهم في حق ربهم ودينهم ورسولهم وأمتهم، بل وفي حق أنفسهم …

الثالث : استبدال المتخاذل إذ نكص عن العبودية الواجبة

إن هذا العمل، وهذه الوظيفة التي يعمل فيها العباد لله، ليس هناك ضمان لأحد أن يبقى موظفاً فيها إلى الأبد

بمن هو خير منه، ممن يشرف بأداء الواجب، وينال ثمرته . ففي نفس الآية السابقة: ( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ) (21) . وهذا أمر آخر خطير: إن هذا العمل، وهذه الوظيفة التي يعمل فيها العباد لله، ليس هناك ضمان لأحد أن يبقى موظفاً فيها إلى الأبد . الوظيفة تقبل الفصل، فيمكن أن تطرد منها .

صور من الاستبدال

فإن الله قد استبدل أمماً بأمم، وبين لنا ذلك النبي كما في صحيح البخاري، لما ذكر لنا مثلنا ومثل من قبلنا مع الله ـ عز وجل ـ فقال: ” مثل المسلمين و اليهود والنصارى، كمثل رجل استعمل قوماً، يعملون له عملا يوما إلى الليل، على أجر معلوم. فعملوا إلى نصف النهار، وقالوا: لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا، وما عملنا باطل. فقال لهم: لا تفعلوا، أكملوا بقية عملكم، وخذوا أجركم كاملا . فأبوا وتركوا . واستأجر آخرين بعدهم، فقال: أكملوا بقية يومكم، ولكم الذي شرطت لهم من الأجر. فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر، قالوا: ما عملنا باطل، ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال: أكملوا بقية عملكم، فإنما بقي من النهار شيء يسير. فأبوا. فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم. فعملوا له بقية يومهم حتى غابت الشمس، فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما. فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور.” (22) إذا فالأمم تستبدل، وتحل أمة جديدة مكان الأمة التي تتخلى عن وظيفتها .

و في حديث النبي في صحيح مسلم، عن حال الناس قبل بعثة النبي أن ” الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب ” (23) هؤلاء البقايا، هل مقتهم الله؟ لا، لم يمقتهم، ولم يغضب عليهم. لماذا لم يمقتهم؟ كانوا موحدين، كانوا مؤمنين. ومع ذلك، فقد استبدلهم ببعثه النبي وبإخراج هذه الأمة، وصارت نجاة هذه البقايا ، في أن يكونوا تابعين للأمة الجديدة ، مصداقاً لحديث النبي : ” والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار.” (24) فصارت نجاتهم في أن يكونوا تابعين، مع أنهم كانوا سابقين. لماذا؟ لأن الوظيفة والعمل الذي كان مناطاً بهذه الأمة المؤمنة، من إقامة الحق، ودفع الفساد في الأرض، صاروا أعجز من أن يقوموا به. فاستبدلوا بغيرهم، وصارت نجاة من ينجو منهم، أن يلحق بذلك الغير، فيكون من المؤمنين، من المسلمين، من أتباع سيدنا محمد .

 ويستبدل جيل من الناس بجيل آخر، كما حصل مع بني إسرائيل الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة مع موسى – عليه السلام – ، فعوقبوا بالتيه أربعين سنة ، ليفنى الجيل الجبان ، وينشأ جيل آخر ، يدخلها مع يوشع بن نون .

الاستبدال في الأمة المسلمة

وهذه الأمة آخر الأمم، لا تستبدل الأمة كلها، لكن يستبدل بعضها ببعض، يستبدل فرد بفرد، وتستبدل فئة بفئة، لأن الله عز وجل خاطب أفضل أفرادها، وخير الفئات من هذه الأمة،  أصحاب النبي ، وهم خير الناس بنص النبي : “خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.” (25) هؤلاء خير الناس، قال ـ تعالى ـ لهم: ( هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )(26) فإذا هدد الصحابة، وهم خير هذه الأمة، بهذا التهديد، فكل من بعدهم داخل في هذا الوعيد. ولا يظنن واهم أن لا يأتي أحد خير منه، فقد جاء في حديث النبي : ” لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته.” (27) فالله ـ عز وجل ـ هو الذي يتولى غرسهم. ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (28) فالله ـ عز وجل ـ هو الذي يأتي بهم من عنده، وبفضله .

بقاء الطائفة المنصورة

إذاً فهذه الأمة لا تستبدل، لأنها آخر الأمم، لكنني أنا وأنت عرضة للاستبدال، يستبدل بعضنا ببعض ، ويبقى في الأمة دائماً وأبدا : تلكم الطائفة ، كما أخبر النبي  : ” لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال.” (29) وفي لفظ مسلم: ” لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس.” (30) و لا يخفى الفرق بين الخذلان وبين المخالفة، المخالف يقول لك: أنت مخطئ . والخاذل يقول لك: ما شاء الله، أنت على صواب، لكن قلبي معك، وليس أكثر من قلبي – إن لم يخذل بأكثر من هذا – فهذا خاذل . إنه لا يخطئك ، لكنه لا ينصرك . فماذا تفعل بقلوب مجردة مبعثرة في الأرض ؟!

نحن وواجب المرحلة

  ونحن الآن ، نعيش في المرحلة الثانية ، لذلك قال الله ـ تعالى ـ في “آية البيعة ” : ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖوَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ) (31) فابتدأ بالتوراة ، مع أنه كانت هناك كتب قبل التوراة ، لماذا ؟! لأن سنة القتال ومجاهدة أعداء الله ، ودفعهم بأيدي المؤمنين ابتدأت منذ إنزال التوراة ، وامتدت في الإنجيل ، وامتدت في القرآن ، وصارت هذه سنة الله الماضية إلى آخر الزمان .

لا صلاح إلا بالدفع

والدفع لفظ عام ، يشمل كل صور الدفع الممكنة . وكل صورة من البغي ، لها صورة من الدفع تقابلها وتناسبها

وقد علمنا الله – كما مر – أن الحياة لا تصلح في هذه المرحلة إلا بالدفع ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) (32) فليس هناك سبيل آخر . والدفع لفظ عام ، يشمل كل صور الدفع الممكنة . وكل صورة من البغي ، لها صورة من الدفع تقابلها وتناسبها ، فشرع الله – سبحانه – دعوة الكافر ، وتعليم الجاهل ، وتذكير الغافل ، وشرع أيضاً الإنكار على الموغل في أهوائه ، وشرع الجهاد ضد الذين يصدون عن سبيل الله بسيوفهم وأيديهم . فالحجة تقابل الشبهة، والكلمة تقابل الكلمة ، والسيف أمام السيف . وعليه ، فإن كل وسيلة شرعت لمقابلة ما يكافئها ، في ظل ضوابط لاستخدام هذه الوسائل ، دلت عليها الشريعة ، وبينها العلماء ، ليس هذا مقام بيانها .

ألسنا ضعفاء ؟!

 إن المشكلة ليست في مجرد الضعف ، إنما هي في الرضا بالضعف ، أو إن شئت فقل : في الاستسلام للضعف ، وعدم السعي لتجاوزه إلى القوة . نعم ، الضرورة لها أحكامها ، لكن : الضرورة تُقَدّر بقدرها ، كما أن السعي في إزالة الضرورة واجب ، كما قرر أئمة الإسلام .

بين الواجب الرباني والوعد الرباني

لكن هذا النصر لا يأتي بمعجزات على نيام

  ولا أمل بغير عمل ، فإن النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين موثوق به ، لأنه وعد الله ، لكن هذا النصر لا يأتي بمعجزات على نيام . ولا يجوز أن ينتظر المسلمون طيرا أبابيل تحرس بيت الله ، ولا أسوة في قول عبد المطلب : ” للبيت رب يحميه ” فإنها كلمة من جاهلي قبل الإسلام ، والبيت له رب يحميه في كل وقت ، فالله يحمي ما شاء متى شاء، لكن الله لم يحم البيت ، لأجل كلمة عبد المطلب ، ولم يكن سلوك عبد المطلب سلوكا شرعيا ، وإنما حمى الله البيت لأسباب أخرى ، منها إظهار شرف هذا البيت –  ولا يلزم فيه التكرار – وإظهار شرف هذا الزمان ، وذلك لإظهار شرف هذا النبي r الذي يولد في هذا الزمان عند هذا البيت ، لتخرج خير أمة أخرجت للناس ، تعمر هذا البيت وتحميه .

في التاريخ عبرة

  فلما بُعِث النبي وخرجت أمته، كان الواجب عليها أن تحمي بيت الله . وحين ضعفت الأمة، وفرطت في حمايته ، أتى القرامطة فقتلوا الحجيج في يوم التروية ، وأخذوا الحجر الأسود من الكعبة ، واحتفظوا به سنين عددا ، وكان كبيرهم يقول وهم يستبيحون الحرم : أين الطير الأبابيل ؟! (33) وصدق وهو كذوب . نعم ، لم تأته الطير الأبابيل ، ولا يجوز للمسلمين أن ينتظروا الطير الأبابيل ، كيف ينتظرونها ، وهم أمة قوية كبيرة قادرة ؟!… بل الواجب عليهم أن يقوموا بأمر ربهم .

  إنه قد جاء عن النبي أن الكعبة تهدم في آخر الزمان، فقال  : ” يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ” (34)… حين لا يطوف بالبيت طائف ، حين تنهار الأمة وتتراجع ، ويضمحل الإيمان ويقل المؤمنون، ويأذن الله بقرب زوال هذه الدنيا … يهدم البيت ، وله في كل حال “رب يحميه” فليس سر حماية البيت كلمة عبد المطلب ، بل بعث هذه الأمة ، التي تحمي البيت بأمر ربها ، وتحمي حرمات الله ، وتحمي عباد الله . ولا يجوز لها بحال أن تركن إلى الدنيا ، وتقول : ربنا سيحمي بيته … وينصر عباده … ويظهر دينه …

نعم ، سيحدث ذلك . لكن بعذاب الجبناء ، و بمصاب المتثاقلين ، وبإخراج من يكونون يد الله، التي ينتقم بها من أعدائه، ويظهر بها أمره في الأرض .

وختاما

  إننا تحت قصفين ، لكننا نستشرف عدلا قائما ، ونصرا آتيا … بأيد مؤمنة . نسأل الله أن تكون أيدينا من تلك الأيدي ، وأن يصلحنا الله ولا يستبدلنا … اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا … وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان … واجعلنا من الراشدين … آمين .

المصادر

1- متفق عليه: البخاري (3186) ومسلم (353) عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه -.

2- متفق عليه: البخاري (5428) ومسلم (349) عن ابن عباس – رضي الله عنه -.

3- التوبة – 15 .

4- المؤمنون – 43 .

5- تفسير السعدي ص766 .

6- تفسير السعدي ص766 .

7- المؤمنون – 44 .

8- المؤمنون – 45 : 49 .

9- يونس -74 : 75 .

10- تفسير السعدي ص766 .

11- القصص – 43 .

12- تفسير ابن كثير(6/117) .

13- القصص – 43 .

14- تفسير السعدي ص766 .

15- السابق .

16- المائدة – 24 .

17- السابق .

18- الحج – 40 .

19- الروم – 41 .

20- التوبة – 39 .

21- السابق .

22- البخاري (2172) عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – .

23- مسلم (5318) عن عياض بن حمار المجاشعي – رضي الله عنه – .

24- مسلم (244) عن أبي هريرة – رضي الله عنه – .

25- متفق عليه: البخاري (2530) ومسلم (4706) عن ابن مسعود  – رضي الله عنه -.

26- محمد – 38 .

27- حسن: ابن ماجه في المقدمة (8) وابن حبان (327) عن أبي عنبة الخولاني – رضي الله عنه -. وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (8) .

28- المائدة – 54 .

29- صحيح: الحاكم في المستدرك (8456) عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي والألباني في الصحيحة (1959) .

30- مسلم (3640) عن معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه -.

31- التوبة – 111 .

32- البقرة – 251 .

33- فعل القرامطة هذا عام 317 هـ. واحتفظوا بالحجر الأسود لمدة اثنين وعشرين سنة. راجع البداية والنهاية لابن كثير [ 11/160:161] ط. مكتبة المعارف – بيروت .

34- متفق عليه: البخاري (1524) ومسلم (5288) عن أبي هريرة – رضي الله عنه -.


التعليقات