مجدي يعقوب وحديث الحضارة

أحدث تكريم د.مجدي يعقوب وما لحقه عن تعليق لأحد الدعاة ضجة في الوسط الاجتماعي المصري بل والعربي، وبعيداً عن تقييم الشخص الدائر حوله الجدل ودوره، أحب أن ألقي الضوء من نافذة هذا الموقف لرصد النمط الفكري لشريحة من المنتسبين للدعوة في المجتمع الإسلامي، ثم أنطلق من منصة هذا الرصد إلى إرساء بعض من الأسس سواء على مستوى الأفكار أو مستوى الخطاب.

أصل الإشكال:

لقد ركز الخطاب الذي يمثله هذا النموذج الدعوي على مسألة “المعتقد” الذي يحمله الشخص و”المآلات الأخروية” لهذا المعتقد، في مقابل “الإنجازات الدنيوية” التي يقدمها و”المساهمات الاجتماعية” في بيئته الاجتماعية.

ولقد أحدث هذا الخطاب حالة من الصدام بين هذين المحورين، لِما أوجده من مساحة للجدل بين فريقين، كل فريق تمسك بجزئية غلبت على وجدانه الداخلي فدفعته لأحد القطبين المتنازعين، ففريق سيطرت عليه قضية المعتقد وآثاره ونتائجه الأخروية، فتحمس لها لكونها ثابتا من ثوابت الدين، وآخر غلب عليه الانجاز الاجتماعي وما يقدمه من خدمات إنسانية واجتماعية.

لماذا نجح الاستقطاب؟

في الحقيقة لقد نجح هذا الخطاب بدهاء أو بسذاجة في إشعال هذه المعركة، وإحداث هذه الحالة من الاستقطاب، حيث إن أحد الجمهور على الانحياز لإحدى هاتين الجهتين، واختيار أحد الفريقين لقوة منطق كليهما، خاصة أن العامة غالبا ما يميلون للتسطيح، وتبني الأفكار البسيطة لا المركبة، فبإشعال مثل هذه القضايا غالبا ما يحدث لها صدى، ويُسمع لها دوي، ويقع في فخها مَن يقع، ويستفيد منها مَن يستفيد.

بيد إن حقيقة هذين الخطين المتمحور حولهما، أنهما ليسا متعاكسين، بل هما أقرب للتوازي، والخطأ هو إيقاع الصدام بينهما في مخالفة لمعايير الشرع ومعهودات الماضي واعتبارات الواقع ومآلات المستقبل.

جوهر الخلل:

وقبل أن نوضح التأصيل الصحيح لهذه المسألة، لابد أن نفتش عن السر وراء هذا الخطاب التفجيري، وجوهر الخلل في هذه النقطة الأحادية.

فهذا الخطاب الزاعق في ظاهره، الصادع في أثره، القوي في صداه؛ وراءه منطق هزيل منزو في هيكله، وتصور ضعيف منكمش في بنيانه، وذلك لأن الدين تقلص في مُخيلة أصحاب هذا الخطاب من دين أممي تقوم على عماده حضارة، ويبني آثار له على الأرض، ويسد ضرورات الناس وحاجياتهم، ملبياً لنداءاتهم، مغيثاً لاستنجاداتهم، معالجاً لجراحهم، مربتاً على آلامهم، إلى دين خلاص فردي، ليس له في دنيا الناس دور، وهو فقط اعتقاد يُمتحن به آحاد الناس “في الدنيا” ليُحاسبوا عليه “في الآخرة”.

ومع أهمية الإيمان في حياة الإنسان الدنيوية والأخروية، ومركزية الأرض والحياة الدنيا فيها كمكان وزمان للاختبار والابتلاء الرباني، إلا أن دور الدين لا ينحصر في إصلاح الآخرة دون الدنيا، أو إقامة الفرد دون المجتمع، وإلا لما تجاوزت مركزية الدين إلى الدولة، ولا دائرة الفرد عنده إلى الأمة، فهذا الخطاب هو الوجه الآخر من الخطاب العلماني، والذي يتوافق معه حقيقة، وإن بدى في الظاهر أنه يصادمه.

ضبط التصور:

وعند بلوغ هذه النقطة يجرنا الحديث إلى بيان طبيعة الدين الإسلامي ودوره، ومفهوم الأمة الإسلامية وآثارها الحضارية.

فإن الدين الإسلامي كما جاء لإصلاح آخرة الناس ونجاتهم في معادهم، جاء لإصلاح دنيا الناس وإعمارها، وهو بذلك يُنشئ تلازما مطلقا بين المجالين الأخروي والدنيوي من حيث العموم، وإن كان كمال الإفادة لا يتم إلا بكمال الاثنين معا، فإذا استحال تصور انتفاع الإنسان بالدين فى أخراه دون دنياه، فإن وجد مَن انتفع به في دنياه دون أُخراه، ثم إن هذا الانتفاع الأخروي والدنيوي يتفاوت بتفاوت أخذ الناس بهذا الدين والاستقامة عليه، فانتفاع الناس بالإسلام درجات واتجاهات أو مجالات، تجتمع وتفترق بحسب ما أخذه الإنسان من جوانبه ومقدار ما أخذه.

فهذا الدين دين اجتماعي لا دين آحاد فحسب، لذا فقد كوَّن أمة لها خصوصية حضارية، احتوت في ظلها شعوباً تنوَّعت أعراقها وتباينت أديانها، فصبغتهم بصبغتها، ودمجتهم في نسيجها، فأصبح انتماء هؤلاء الأفراد إلى الأمة الإسلامية، وباتت هويتهم هي الهوية الإسلامية، وإن خالفوا سمة الأمة، وسمة المجتمع عقائدياً، فغير المسلمين في المجتمع المسلم -أي أهل الذمة- ينتمون إلى الإسلام هوية لا ديناً، حضارة لا معتقداً.

وكأي مجتمع أو أمة فإن جهود أفرادها تدور في فلك أعمال هذه الأمة، ومنتجاتهم جزء من منتجات هذا المجتمع أو تلك الأمة؛ لذا فإن إسهامات أهل الذمة في المجتمع المسلم والأمة المسلمة، سواء كانت علمية أو عملية، معرفية أو إنتاجية، مادية أو ثقافية وفكرية وأدبية، كل هذه الإسهامات هي جزء من إسهامات الحضارة الإسلامية، تدخل في جملة إبداعاتها وموطن مفاخرها خاصة إذا لم تتصادم مع مبادئ الإسلام وقيم حضارته.

وباستعراض التاريخ الإسلامي نلمح مساهمات حضارية لغير المسلمين أظهروا اعتزازاً بحضارتهم الإسلامية وانتماءً لثقافتها وافتخاراً بهويتها.

ثم إن هذه الصورة لم تكن بدءاً في الأمم، فلم تزل الأمم إلى يومنا هذا تنسب لحضارتها مساهمات آحاد وفئات تخالف مجموع الأمة في عدد من الفوارق، أو حتى لم تكن من أصل نسيجها، ولكنها أنتجت في بيئتها، وأبدعت داخل حاضنتها، فنسب ذلك الإنتاج والإبداع إلى الأمة الحاضنة.

رحاب أوسع:

إذا استطعنا تلافي الصدام بين الموقف من “المعتقد” وتقدير “الإنجاز الدنيوي”، بإيجاد صورة من صور انفكاك الجهة، وذلك في داخل المجتمع الإسلامي، فإنه يمكن أن نُنزل هذا الأمر على طبيعة الدور الإنساني في الدائرة العالمية، فهناك كثير من المساهمات البشرية ساعدت على تطوير الحياة الإنسانية والارتقاء بها وخدمتها وإن كان أصحابها كفاراً، وكان من الإنصاف تقدير مجهودات هؤلاء خاصة إذا كانت دوافعهم لها نبيلة، وقصدهم منها خدمة الآخرين ومساعدتهم.

والشرع قد حث على الإنصاف ودعا أتباعه إليه وعلمهم إياه؛ فقال في محكم التنزيل: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران : 75].

بل فرق بين الكفار في النظرة والمعاملة {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة : 82]. وقال: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين} [البقرة : 194]. وقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه} [الأنفال : 61].

استدراك ورد:

وفي الختام قد يورد أحدهم استدراكاً على هذا الكلام مستشهداً بجواب النبي -صل الله عليه وسلم- لمن سأل عن مَن أطعم وأنفق من أهل الجاهلية، وهل يغني عنه هذا يوم القيامة؟ فقال: «لاَ يَنْفَعُهُ. إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْماً: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ».

والجواب أنه إنما كان ذلك لدفع توهم فاسد، بأن الأعمال الصالحة من دون إيمان تقي من الوقوع في النار وتُدخل صاحبها الجنة، فيُقال ذلك في مظنة وجود هذا التوهم، خاصة في مواطن السؤال والتعلم ودوائره، وهذا التفصيل في الأحوال إنما نستقيه من ثناء النبي –صل الله عليه وسلم- على بعض أعمال الكفار الصالحة، وتقديره لبعض من أشرافهم.

وأن النبي –صل الله عليه وسلم- قال في أسارى بدر: «لو كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ له». وكما قال صلى الله عليه وسلم في حديثه مع ابنة حاتم الطائي « يا جارية، هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك مسلمًا لترحمنا عليه » ثم قال لأصحابه: “خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق”.

إذا فإنه قد يفرق في الحديث عن الناس بين “العقيدة” و”الإسهامات الدنيوية” خاصة في البيئة الإسلامية لخصوصية دخول هذه الإسهامات في المنتجات الحضارية للأمة، مع مراعاة اعتبار المكان والزمان والمآلات عند الحديث في الخطاب الجماهيري العام.


التعليقات