هل الديمقراطية كفر؟

سؤال يتردد على ألسنة البعض، ويتجاذب الإجابة عند أطراف عدة؛ هل الديمقراطية كفر؟

إذا أردنا أن نجيب عن هذا السؤال؛ لابد لنا من الوصول إلى ماهية الديمقراطية، ونجردها من كل ما التصق بها لنملك صورة واضحة يمكننا من خلالها أن نحكم عليها، وكما هو متقرر فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

نحن هنا لا نناقش صلاحية الديمقراطية، ودرجة نجاحها أو فشلها –وهي مناقشة تحتاج لنظر أعمق، وجهد أوسع، ودراسة أكثر تخصصية ليس محلها في هذه الورقة- بقدر ما نناقش كنهها ودلالتها، فنحن نبحث عن ماهية الديمقراطية بالأساس، وما يترتب عليه من الحكم المجمل والتفصيلي على هذا المصطلح.

فالديمقراطية إذن هي مقابل الديكتاتورية، ونظام الحكم الديمقراطي مقابل نظام الحكم الديكتاتوري.

في البداية فإن هذا المصطلح مصطلح يوناني ويعود لأمة لا تعرف الشرائع السماوية ولا تؤمن بها، فالأصل عندها أن التشريع والحاكمية يصدران من البشر حيث لا وحي ولا شرائع ولا إله حكم، فلم ينشأ المصطلح لأمة تعرف الشرائع السماوية، ثم أحدثت مذهبا أو فلسفة تستبدل بهذه الشرائع والأحكام أحكام البشر وتشريعاتهم، بل الأصل في تشريعاتهم أنها بشرية المصدر لا سماوية، ولكي يتضح مفهوم الديمقراطية الأول لابد من البحث عن ما يقابلها أو ما كانت هي مناقضة له، وكما هو معلوم أن الضد بالضد يعرف.

فإذا أخرجنا صاحب الكتاب الأخضر للديمقراطية بأنها “الندم على الكراسي”، وإذا أخرجنا كل ما تم إلصاقه بها حديثا كلوازم تعلقت بها بعد اقترانها بالليبرالية اللاحقة عليها بقرون، وبالتركيز على الصورة الأولى كنموذج أولي أساسي لم يتطور لأشكال أكثر تعقيدا فتحتاج لتشريع، نجد أن المعنى الأساسي المشترك للحكم الديمقراطي أن حكم العامة أو الجمهور وهو المقابل والنقيض للحكم المركزي أو الأوحد أو حكم الفرد أو ما سُمى لاحقا بالحكم الديكتاتوري، والديكتاتوري هو منصب أضافه الرومان لاحقا لجمهوريتهم ذات النظام الديمقراطي، وجعلوه حقا لفرد يستبدل من خلاله بالحكم في أوقات الأزمات والحروب، ثم ينزع منه هذا الحق بعد تجاوز الظرف الخاص ليعود إلى الجماعة الحاكمة.

فالديمقراطية إذن هي مقابل الديكتاتورية، ونظام الحكم الديمقراطي مقابل نظام الحكم الديكتاتوري.

حكم الفرد أو الحكم المركزي والشمولي الاستبدادي، سواء كان هذا الحكم المركزي على صورة ملكية (ككثير من الممالك التي عرفها الزمان في كل الأمم) أو عسكرية (عند الأشوريين، والرومان، في حقبة من تاريخهم) أو في هيئة نخبة طبقية (كالحاكم الذي في المدن اليونانية القديمة).

فالديمقراطية المطورة ليست ديمقراطية مباشرة في الشكل الأعم من ممارستها، إنما تحولت لديمقراطية نيابية ينتخب فيها الجمهور نقباء ينوبون عنهم في إدارة شئونهم، والتعبير عن إرادتهم..

وبعد أن قررنا أن أصل الديمقراطية حكم العامة والجمهور، وهو متجسد واقعيا في بعض المدن اليونانية الصغيرة، حيث يجتمع كل الرجال الأحرار من أهل المدينة في مجلس للحكم أشبه بالمجالس القروية لإدارة شئونهم، لابد أن نشير إلى صورة الديمقراطية المعاصرة في شكلها الشائع.

لقد استبدلت أوروبا الحديثة الديمقراطية المعاصرة من أعماق التاريخ، لكنها طورتها لتتناسب مع إدارة الدول الكبيرة بخلاف المدن الصغيرة، هذا التطوير جعل صورتها الحديثة مزيجا بين الحكم الشعبي الجماهيري القاعدي وأنظمة الحكم المركزية النخبوية.

فالديمقراطية المطورة ليست ديمقراطية مباشرة في الشكل الأعم من ممارستها، إنما تحولت لديمقراطية نيابية ينتخب فيها الجمهور نقباء ينوبون عنهم في إدارة شئونهم، والتعبير عن إرادتهم، وعلى الرغم من أن المجموعة الحاكمة جاءت منتخبة من الجمهور إلا أنها واقعيا وعمليا أخذت صورة حكم النخبة في الطبيعة المركزية، هذا الحكم المركزي يضيق أكثر في الأنظمة الرئاسية المركزية حتى يكاد يكون الإدارة فيها بيد فرد، وهو يتسع نسبيا في الديمقراطيات البرلمانية ليتخذ صورة أشبه لصورة حكم النخبة (أوليجاركية) لكنهما هنا نخبة منتخبة.

في حين أنه وفي قضايا مصيرية  أو عامة معينة، يحسم فيه القرار عن طريق الاستفتاء المباشر. الاستفتاء في الأنظمة الديمقراطية يمثل الصورة اليتيمة لحقيقة الحكم الديمقراطي –أي الديمقراطية المباشرة – هذا مع نزع عامل تأثير مراكز القوى والنخب السياسية والاجتماعية والإعلام على خيارات الجماهير.

إذا فالديمقراطية المعاصرة حولت نظام حكم العامة (الديمقراطية المباشرة) إلى آلية اختيار الناس عمن يحكمهم على أساس تمثيلي لتكون نظاما مزجيا بين حكم الجماهير الشعبي، وحكم النخبة المركزي، حيث تميل أكثر للشكل الشعبي في النظم البرلمانية، وللشكل المركزي في النظم الرئاسية. كما ينحصر  نموذج الحكم الجماهيري المباشر فقط في صورة الاستفتاءات، ومن جانب آخر اقترنت بالديمقراطية في صورتها المعاصرة لوازم فلسفية كالعلمانية، ونظرية السيادة للشعب بمعناها القانوني، وبمفاهيم ليبرالية اجتماعية جعلتها تأخذ بعداً أيديولوجيا فصارت كأنهما في أوسع مما كانت عليه كنمط في أنماط أنظمة الحكم.

ومما سبق يتبين لنا أن أساس الديمقراطية –إذا نظرنا إلى معناها الأصلي، وجردناها من علاقة الحداثة- أنها نظام وآلية حكم أقرب منها إلى فلسفة وعقيدة وتشريع، وبناء عليه فإن يمكن أن يوصف بها وما يضادها على سبيل المجاز والمقاربة، أي نظام حكم بعيداً عن خلفيته العقائدية أو أصوله التشريعية، ومن هنا ليس من الدقة نعت الديمقراطية بالكفر فيكون نقيضها وهو الديكتاتورية من الإيمان.

إن كان المقصود منها هو معناها الأساسي العام فهي مجرد آلية ونظام حكم ليس لها بُعد ديني، بل إن ابن خلدون قد عبر عنها تقريبا لمعناها بوصف شرعي وهو الشورى.

وكما أنه ليس من الضرورة أن تعطي الملكية حق التشريع والسيادة المطلقة بمعناها القانوني للملك، باعتبار امكانية الانفصال الواقعي بين الإدارة والحكم في النظام الملكي –التي تكون بطبيعة الحال للملك-، والحق التشريعي الذي قد يمنح له –فيكون نموذجا لإعطاء الحاكمية لبشر- أو يعطى لجهة أعلى من الملك فيكون مجرد منفذ لهذه الإدارة العليا، خاضعا لها في التشريعات الدينية مثلا.

فكذلك ليس من الضرورة أن يقترن في النظم الديمقراطية قانونيا وعمليا بين حق التشريع بالإدارة والحكم، فإن كنا لا نستطيع أن ننعت الملكية بالكفر لمجرد وجود أنظمة ملكية تجعل التشريع فيها حق لبشر وهو شخص الملك –باعتبار وجود أنظمة في التاريخ الإسلامي أخذت شكل الملكية، فإن ليس من الدقة وصف الديمقراطية بالكفر، لارتباط الأنظمة الديمقراطية بجعل حق التشريع حقا للبشر كمجموع الشعب أو الأمة.

وخلاصة الموقف من الديمقراطية أن إن قصد منها لوازمها وما ألحق بها من العلمانية وجعل السيادة وحق التشريع للناس فهي كفر، لا في ذاتها بل لما ألحق بها ولو خص ذكر المعنى الكفري وتحديده، كقولنا أن جعل التشريع للناس كفر أو أن العلمانية كفر لكان أدق وأصوب وأولى.

لذا كان الصواب هو ما كان عليه الكتابات الإسلامية قديماً في جعل ما يقابل الإسلام هو العلمانية، ومن تنصيب العلمانية هدفا للمعركة (أنظر على سبيل المثال كتاب “لماذا أرفض العلمانية”، وسائر أدبيات الحركة الإسلامية قديما)، لتشمل بذلك كل صور العلمانية سواء كانت ديمقراطية أو ديكتاتورية.

أما إن كان المقصود منها هو معناها الأساسي العام فهي مجرد آلية ونظام حكم ليس لها بُعد ديني، بل إن ابن خلدون قد عبر عنها تقريبا لمعناها بوصف شرعي وهو الشورى.

فالنظام الديمقراطي المعاصر قريب من النظام الإسلامي الشرعي في مبدأ اختيار الناس لحاكمهم مع اختلاف في التفصيلات، هذا وإن احتمال اقتباس النظام الغربي لهذه الخاصية من النظام الإسلامي هو احتمال مطروح “نظرية العقد الإجتماعي”.

ويبقى لدينا صورة الحكم المباشر في الاستفتاءات المعاصرة، فلو افترضنا استفتاء على قضية غير شرعية، لكنها تمثل شأنا عاما –كنقل عاصمة الدولة أو تغيير لون علمها-، أو لها بعدا مصيريا، فهل آلية الاستفتاء على النمط الديمقراطي الذي يتساوى فيه المتخصص مع غير المتخصص في حساب الأصوات –طريقة- لا تعارض الشريعة، ويحصل بها المصلحة، وأن تحتاج إلى بحث من أهل الاختصاص والخبرة.


التعليقات