الخطاب العلماني العربي: بين صناعة المقدسات واصطناع المعارك

تابوهاتٌ شديدة، لم يكتفِ علمانيو العرب بميراث التابوهات الكبير والأخرق الذي عرفته جموع البشر خلال التواءاتهم العديدة في شعاب التاريخ، لكنّهم أبوا إلَّا أن يُلقوا علينا بمزيدٍ منها ليحركوا مياهنا المضطربة التي هي في غنًى عن مزيد حركةٍ واضطراب، ومن هذه التابوهات ما اشتُهِر بتسميته بالدولة الوطنية أو القومية. فما هي قصة هذه الدولة؟ وهل تستحق كل هذا الجدل في محيطنا المحلي؟

 ما قبل الدولة القومية

في أوروبا العصور الوسطى كانت الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قائمةً على نظام الإقطاع، وفيها يقسّم الملك مملكته إلى قطاعاتٍ إداريةٍ أصغر، ويعين عليها أفصالا وبدورهم فإنَّ هؤلاء الأفصال يقسّمون أراضيهم ويسلمونها لأفصالٍ أصغر؛ حيث يستفيد الأفصال من إيرادات الأراضي الزراعية مقابل إمداد ساداتهم بجزءٍ من خراج الإقطاع، مع إعلان الولاء والالتزام بالتبعية لهذا السيّد وما يترتب عنه من التزاماتٍ كإمداد السيد أو الملك بالرجال المقاتلين عندما يشنُّ الملك حربًا ما.

والحقيقة أنّ نظام الإقطاع هو عبارةٌ عن توازنٍ بين الحاجيات والقوة، يقدّم فيه الضعفاء الخدمات مقابل حصولهم على الحماية والبقاء، وفي المقابل يحصل القوي على السُّلطة وحق التملُّك، كلُّ ذلك في ظلِّ بيئةٍ تقدّس الفروسية، وقائمةٌ على الحروب الداخلية والصراعات البينية..

غالبًا ما يخرج هؤلاء الأفصال بدرجةٍ ما عن سلطان الملوك حتى يصل بهم هذا الخروج إلى منازعة الملك نفسه فضلًا عن منازعتهم لبعضهم البعض.

هذا التقسيم السياسي الاقتصادي الاجتماعي كثيرًا ما يتخطى حواجز العرق والجغرافيا واللغة والعُرف، فقد نجد أمامنا ملك إنجلترا فصلًا من أفصال الملك الفرنسي؛ ذلك لأن الملك الإنجليزي يمتلك إقطاعًا يدخل تحت السلطان الفرنسي كما يمكننا مشاهدة ملوك إنجلترا من النورمانديين وهم يسكنون الأراضي الفرنسية ولم تطأ أقدامهم إنجلترا إلّا مراتٍ معدودة.

وفي هذه البيئة تتوسع الممالك وتتغير الخارطة السياسية عبر المقايضات وشراء الأراضي والزواج السياسي، وبالطبع الغزو العسكري، وفي غمرة هذه الأجواء تنتقل ملكية الأراضي الإقطاعية وما عليها بمن تشملهم من البشر من الفلّاحين والعبيد من سيدٍ لآخرٍ بشكلٍ تلقائيٍّ دون أيُّ تدخِّلٍ منهم.

الفلاحون والعمّال سواءً كانوا أحرارًا أو عبيدًا، يُعتبَر ارتباطهم بالأرض ذاتها (الإقطاع) أكبر من ارتباطهم بمن يمتلكها، فهم يخدمون في الأرض أيًّا كان لون سيدها أو جنسه.

والحقيقة أنّ نظام الإقطاع هو عبارةٌ عن توازنٍ بين الحاجيات والقوة، يقدّم فيه الضعفاء الخدمات مقابل حصولهم على الحماية والبقاء، وفي المقابل يحصل القوي على السُّلطة وحق التملُّك، كلُّ ذلك في ظلِّ بيئةٍ تقدّس الفروسية، وقائمةٌ على الحروب الداخلية والصراعات البينية معتمدةٌ بدرجةٍ كبيرةٍ على الزراعة في نظامها الاقتصادي. ومع مرور الوقت لم تستمر المحافظة على هذه المقايضة “الخدمات مقابل الحماية” ففي حين استمر طرفٌ في تقديم خدماته عجز الطرف الآخر عن تقديم الحماية المطلوبة منه.

وبحلول القرن الرابع عشر أصبح الجيش الإقطاعيُّ غير صالحٍ وحل محلّه جيشٌ من محترفي الجندية والمرتزقة.

بذور الدولة القومية

في أواخر العصور الوسطى الأوروبية طرأت تطوُّراتٌ كثيرةٌ على العالم الغربيّ، فقد كان قد تعرّف على الشرق عن طريق الحروب الصليبية مما أثّر على كثيرٍ من جوانب حياتهم ورؤيتهم العالم، وما إذ انطفأ شعاع الحملات العسكرية على الأراضي المقدّسة وحلّت محلها المبادلات التجارية، وهدأت غزوات الفيكنج  واستقرت حركتهم حتى انتعشت التجارة وما رافقها من صناعاتٍ وأنشطة، وازدهرت مراكزٌ تجاريةٌ جديدة في قومونات شمال إيطاليا حيث تأتي البضائع الشرقية وأغلبها من الكماليّات عبر الموانئ الإيطالية لتجد طريقها إلى بقية القارّة عبر ممرات الألب، أو عن طريق البحر.

أدَّت خسارة جون أخي ريتشارد قلب الأسد وخليفته لأراضيهم في فرنسا إلى تحويل فرنسا لقوةٍ سياسية، كما أخذت هذه الخسارة ملوك إنجلترا إلى مسارهم الخاص غير ملتفتين للقَّارة أو مرتبطين بالمسار الفرنسي..

وكذلك الحال في الأراضي المنخفضة وبرجامديا (ما تمثل اليوم هولندا وبلجيكا)، شكّل مصب نهر الراين في بحر الشمال شريانًا تجاريًّا يربط قلب أوروبا وغربها مع الجزر البريطانية وإسكندنافيا، وهذا ما مهّد لقيام شكلٍ اجتماعيٍّ جديدٍ يتمركز في المُدن المسوَّرة، وطبقةٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ ذات ثراءٍ ونفوذ وأموال (البرجوازيُّون) ونقابات حرفية تمثّل أرباب المهن المختلفة من قاطني هذه المدُن، ولقد اجتذبت هذه المُدن الجديدة القوى البشرية من الريف إليها خاصَّةً عندما منحت الحريَّةُ لكل عبدٍ يفد المدينة ويعيش فيها لعامٍ ويوم.

فقد تشكَّلت روابطُ ومصالح مشتركةٌ لهذه الكيانات الجديدة زاد من أواصرها التهديدات التي أثارتها النزاعات التي وقعت بينها وبين الأنماط الإقطاعية القديمة أو بينها وبين بعضها. تشكّلت بذلك بذور الروابط القومية في هذه المدن الجديدة والمستقلة، كما برزت صفة المواطن الحر ساكن المدينة.

وفي خلال نفس المرحلة الزمنية رجحت كفّة الملوك وتعزز نفوذهم على حساب الحُكّام الإقطاعيين الذين تراجعت خطوتهم ومكانتهم لمتغيراتٍ ومستجداتٍ اجتماعيةٍ واقتصادية، ووجد الملوك في المدن وفي البرجوازيين حلفاء داعمين يساعدونهم على بثِّ سيطرتهم على أراضي المملكة التي كانت في حوزة الإقطاع.

وبرزت باريس ولندن كعواصم ومراكز قوية، وقبل ذلك أدَّت خسارة جون أخي ريتشارد قلب الأسد وخليفته لأراضيهم في فرنسا إلى تحويل فرنسا لقوةٍ سياسية، كما أخذت هذه الخسارة ملوك إنجلترا إلى مسارهم الخاص غير ملتفتين للقَّارة أو مرتبطين بالمسار الفرنسي، ثمّ كان ما تلا ذلك من حروبٍ كحرب المائة عام وما صاحبها من شعاراتٍ قومية “فرنسا للفرنسيين” أو الحرب الدينية في بوهيميا وحرب الثلاثين عامًا.

وكذا نشاط السلاف في الشرق، كلُّ ذلك أنتج في النهاية الدولة الوطنية القومية الحديثة، وشكّل حدودًا جديدةً مبنيةً على روابط المصلحة واللغة والعرق والدين.

 عصرٌ واحدٌ وعوالم أخرى

في نفس هذا العصر كانت الحياة في الواقع الإسلامي وإن تشابهت في جوانب بحُكم طبيعة الزَّمان، فإنّها اختلفت في جوانب أخرى لخصوصية المكان، فالدولة المركزيّة القُطريّة ظلّت في أغلب الوقت حاضرةٌ، وإن كان مع ضعف مركزيّة الخلافة كإدارةٍ سياسية، وحتى مع ظهور أمراء الإقطاع المتأخِّر نسبيًّا فإنّ نفوذهم كان محدودًا بجوار سلاطين الممالك، أمّا الصراعات الداخلية فلم تزل صراعاتٌ نخبوية لم ترقَ لأشكالٍ شعبيةٍ إلّا على خلفياتٍ قبليّةٍ في بعض الأحيان.

ولم يتعدَ الدور الشعبيُّ في كثيرٍ من هذه النزاعات دور المشاهد المراقب دون دور المشارك، الصراعات محصورة على المتنافسين ودوائرهم الخاصّة، وإن كان المزاج الشعبيُّ قد يميل إلى لأحد المتنافسين

دون الآخر، لكننا لم نشهد صراعًا شعبيًّا شعبيًّا إلّا إن غذَّاه بعدٌ قبليٌّ أو مذهبيٌّ وهو ما يقع في حالاتٍ قليلة؛ أي: أن الصورة الشائعة للصراع هو أن يكون (نخبويًّا نخبويًّا) أو (شعبيًّا نخبويًّا) لا (شعبيًّا شعبيًّا).

العزُّ بن عبد السلام الذي انتقل كرمزٍ شعبي من ضفة الشام إلى الضفة المصريّة دون اعتبارٍ لأي فارقٍ بين الضفتين، أو ابن خلدون الذي كان سياسيًّا في المغرب ثم أصبح قاضيًا في مصر، وقد ظلّت هذه الصورة المرنة وهذا الحسُّ الشعبيُّ قائمًا حتى بدايات القرن العشرين.

هذه الحالة منشأها يعود إلى قوة رابطة الدين بين المكونات الاجتماعية الإسلامية التي احتوت على كل الروابط تحتها، فشرعيّة الحُكّام كانت مرهونةٌ بمدى ارتباطهم بالرابطة الجامعة الأكبر، وكانت خصوصية الرابطة الرسالية أقوى من الارتباط بالأرض.

فعلى سبيل المثال: لم تشكل انتقال القيادة بين مصر والشام (الزينكيين والأيوبيين) أي إشكالٍ عند الحس الشعبيّ في كلا الإقليمين، فكلاهما يحمل نفس الراية وإن اختلفت ألوانها، وهذا ما يفسر الفرق بين التعاطي الشعبي الناتج عن دخول العثمانيين لمصر وبين دخول الفرنسيين إليها، وقد عزز هذه الحالة استمرار حركة الانتقال وتدفق المهاجرين والمستوطنين عبر الأقاليم الإسلامية في سلاسةٍ ويُسر، سواءً كانت هذه الحركة حركة أفرادٍ أو كُتلٍ وأُسَرٍ وقبائل، وسواءً كانت حركة ترحالٍ وانتقالٍ أو هجرةٍ واستيطان.

ومن نماذج هذا الانتقال السلس حياة الإمام الشافعي الذي وُلِد بغزَّة وتربَّى في المدينة ثم انتقل إلى العراق ومات في مصر، وكذلك العزُّ بن عبد السلام الذي انتقل كرمزٍ شعبي من ضفة الشام إلى الضفة المصريّة دون اعتبارٍ لأي فارقٍ بين الضفتين، أو ابن خلدون الذي كان سياسيًّا في المغرب ثم أصبح قاضيًا في مصر، وقد ظلّت هذه الصورة المرنة وهذا الحسُّ الشعبيُّ قائمًا حتى بدايات القرن العشرين.

فهذا عزُّ الدين القسّام سوريٌّ يناضل في فلسطين، والأفغاني الذي يحمل مشروعًا منطلقًا به من مصر، ومحمد رشيد رضا يقدم من الشام إلى مصر، وكذا سليم وبشارة تقلا، أمّا عزيز المصري فانطلق من مصر إلى ليبيا، والبشير الإبراهيميُّ ينتقل من الجزائر إلى الحجاز ثم يعود، وإذا تأمَّلنا أرض الحجاز وهي المركز الأول للإسلام، فإننا نلمح مرونةً في الرابطة الجغرافيّة مع توثُّق الرابطة الرسالية؛ فقد انتقلت تبعية الحجاز بسلاسة من المدينة عاصمة الإسلام الأولى إلى الكوفة ومنها إلى دمشقٍ، ثمّ بغدادٍ، ثم القاهرة، ثم إسطنبول وهكذا.

بل إنّ حركات التمرُّد التي عرفها الحجاز لم تكن تهدف للاستقلال به بقدر ما كانت تهدف لاستعادة ونقل المركزيّة إليه كما كان في خلافة عبد الله بن الزبير وثورة النفس الزكيّة.

الخلاصة

لطبيعة الإسلام الحضارية عرفت أمّته الحواضر الكُبرى، والعُمران المزدهر والمُدن العظيمة المسوَّرة، وذلك منذ بداياته الأولى كما لم يعرف المجتمع الإسلامي الإقطاع حتى في عصوره المتأخّرة بصورته التي كانت عليها في الغرب الأوروبي، حتّى النزوح الذي عرفته بعض الأقطار الإسلامية من الريف إلى المدينة كما حدث في مصر، فلم يكن إلّا بعد فرض صيغة الدولة القومية الحديثة، بل إنّ دولة محمد علي لم تعرف لها حدودًا ضمن المجال العربي واخترقت الجزيرة العربية والشام شرقًا، وحازت السودان جنوبًا.

فمن أين هبطت علينا صيغة الدولة الوطنية القومية؟

إنَّ الحس الوطني والارتباط بالبلدة والتشارك الأهلي، والامتزاج مع الجار، والاهتمام بذي القربى، كلُّ هذه دوافع إنسانيةٌ طبيعيةٌ لا يمكن تجاوزها، كما أنّها أكبر وأعظم وأوسع وأرقى من أن تُترجَم إلى عصبياتٍ أرضيةٍ بلا روح وجغرافيا بلا رسالة، وقوانين جامدةٍ بلا مبادئ وقيَم، وقيودٍ وحدودٍ بلا إحكام عقلٍ أو إعمالٍ لفكر، فالوطن عندنا جزءٌ قريبٌ وغالٍ من كل عظيمٍ وحبيب، وهو مسؤوليةٌ وأمانةٌ وحقٌّ خاص من واجبٍ عام وملكٍ شائع.

فمما سبق نخلص إلى أنّ بيئتنا لم تعرف الدولة القومية الوطنية بشكلٍ طبيعيٍّ أو إخراجٍ سلس، إنّما عرفت الوطن كروحٍ وعاطفة، والقوم (الأهل)كرابطةٍ ووشيجة، والرسالة كقيمةٍ كونيةٍ فوق ذلك كلّه تتجاوز كلّ ما هو أرضي، بخلاف الدولة القومية أو الوطنية في الواقع الغربي، فهي إفرازٌ طبيعيٌّ وتطورٌ واقعيٌّ صنعته البيئة الغربية بظروفها ومختصَّاتها، وهو ما لا يجعلها نموذجًا طوباويًّا وقدسا أوحداً، فما هي إلّا بنت بيئتها ومرحلتها يجري عليها الزَّمان فيغيرها أو يثبتها.

والسؤال هنا: لماذا إذًا يختلق علمانيُّو العرب تابوهاتٍ لا حقيقة لها، ويفتعلون معركةً بلا ميدان، ويجرُّوننا إلى سجالاتٍ لا واقع لها ولا وجود؟


التعليقات