واقعية الشريعة

تقوم واقعية الشريعة على محورين كبيرين عنهما يتفرّع كل ما تظهر فيه تلك الواقعية أو يحققها فيها.

أولهما: مراعاة الاستطاعة في المكلّفين

فمن المقرر في الشريعة أنه لا تكليف إلا بمقدور، وأن الله -عزَّ وجَل- إذا سلب ما وهب أسقط ما كلّف، ولأدلة مثل قول الله -عزَّ وجَل-: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:286] و ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا﴾ [الطلاق:7] حتى صار من قواعد الفقه رفع الحرج.

ثانيهما: الارتباط بالمصالح المعتبرة شرعًا

فالمصلحة هي الهدف الذي لأجله شُرع الحكم، وقد قرر العلماء أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في العاجل والآجل، وأن مصالح الدنيا مقصودةٌ من أجل مصالح الآخرة لأدلةٍ مثل:

  • قول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة:205].
  • وما حكاه عن رسله ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ [هود:88] حتى صار من قواعد الفقه تغليب حكم ما رجح من المصالح أو المفاسد فيما يجمعهما، فيشرع ما غلبت مصلحته ويُمنع ما غلبت مفسدته ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ [البقرة:219] فالحكم لما غلب.

وسنسعى في طرح الأمثلة التالية من القضايا الشرعية إلى بيان ما في تشريعها من الواقعية في الفهم والتعامل والاستهداف جميعًا.

في أحكام الجهاد

نجد أننا إذا تأملنا مقدمتين ونتيجتهما الفقهية تجلّت لنا واقعية الشريعة في أحكام الجهاد، وذلك بعد التأكيد على أنّ تشريع الجهاد في حد ذاته كأعلى صورة من صور التدافع بين الناس هو من الواقعية باعتبار ما يصلح الواقع الإنساني القائم على الامتحان باجتماع الخير والشر في الدنيا.

أمّا المقدمة الأولى فهي تشريع الجهاد وارتباطه بإنزال التوراة على موسى -عليهِ السَّلام- بعد أن انفصل ببني إسرائيل في سيناء، وأمنوا بعد إهلاك فرعون وجنده في البحر، ولم يُحمّل المؤمنون قبل ذلك شريعة الجهاد.

لذلك عندما ذكر الله -عزَّ وجَل- بيعة الإيمان المتضمنة في الجهاد قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ﴾ [التوبة:111] فبدأ ذلك الوعد في التوراة واستمر فيما بعدها، ولم يكن الجهاد فيما قبلها.

من كانت حاله كحال المؤمنين الأولى قلّةً وضعفًا فهو مخاطبٌ بأحكامهم، ومن كانت حاله أكثر وأقوى من ذلك فهو مخاطَبٌ بما يلائم حاله من أحكام الجهاد حتى تكمل قوته فيكون مخاطبًا بالأحكام النهائية في الجهاد..

فإن المؤمنين قبل أن يكونوا أُمّةً متميزةً منحازةً في أرضٍ قادرةً على الجهاد كانوا أفرادًا قليلين في كفارٍ كثيرين لا يقدرون على مقاتلتهم وإلا أدى ذلك إلى إهلاك المؤمنين؛ فلذلك لم يُشرع لهم جهاد الكفّار، والمؤمنين الذين نُصِروا بإهلاك الكافرين كان إهلاكهم بالقدر الربّاني الغالب بعد الإنذار والإعذار.(1)

دون أن يكون للمؤمنين دورٌ آخر في إهلاك أولئك الكافرين، ثم يعيشون بعد ذلك أفرادًا أو أُمةً مؤمنةً في الأرض فارتبط تشريع الجهاد للأُمة المؤمنة بحال تلك الأمم وقدرتها التي لم تكن متوفرة كما يدل عليه حديث عرض الأمم على النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفيه النبي ومعه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي وليس معه أحد.

وأول سوادٌ عظيم رآه النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- قيل له: هؤلاء موسى وبنو إسرائيل، فهل إذا راعى الشرع ما سبق في القدر من عدم وجود أمةٍ مؤمنة تقدر على القيام بأعباء جهاد الكفار في الأرض مما يحقق مقصود ذلك التدافع من الانتصار للحق وهزيمة الباطل، وإعانة الناس على الدخول في دين الله والاستقامة عليه.

وأمّا المقدمة الثانية فهي تدرج التشريع في هذه الأمّة بعد ذلك تدرجه بين الأمم المؤمنة: إن الأمر بالصفح والإعراض وكف الأيدي ابتداءً حين كان المؤمنون أفرادًا قلائل بين أقوام من الكافرين، ثم صار مأذونًا فيه بعد أن صارت لهم أرضٌ ودولةٌ في المدينة، ثم أُمِروا بقتال من قاتلهم دون غيره، وحتى الأمر العام بقتال الكُفّار ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة:193] في تدرجٍ تشريعيٍّ يراعي تدرج أحوال الأمة المؤمنة وما يدخل في حيز القدرة وما لا يدخل بما يحقق أعلى المصالح ويدفع أشد المفاسد.(2)

والنتيجة الفقهية هي ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن الخلاف بين من قالوا بالنسخ في أحكام الجهاد، ومن قالوا بالنسء فيها هو خلافٌ لفظي غير حقيقي باتفاق كافة العلماء على أن من كانت حاله كحال المؤمنين الأولى قلّةً وضعفًا فهو مخاطبٌ بأحكامهم، ومن كانت حاله أكثر وأقوى من ذلك فهو مخاطَبٌ بما يلائم حاله من أحكام الجهاد حتى تكمل قوته فيكون مخاطبًا بالأحكام النهائية في الجهاد، وهذه النتيجة تدعم ما سبق عرضه من واقعية الشريعة في أحكام الجهاد سواءٌ أكانت شريعة من قبلنا من الأمم المؤمنة أو كانت شريعة أمتنا هذه خير أمةٍ أُخرجَت للناس.

في أحكام العلاقات المجتمعية

فالمجتمع في ظل دولة الإسلام أو في غيابها يضم مسلمين وكفارًا وأهل سُنّة وأهل بدعة ومستقيمين وفجّارًا، فكيف يتعامل أهل الطاعة مع غيرهم؟ وهل نجد للواقع تأثيرًا على أحكام هذه العلاقات؟

فبلغ من واقعية الشريعة أن كان تنزيل أحكامها على غير الواقع الذي شُرعت في مثله خروجًا ممنوعًا عن الشريعة ودليلًا على جهل من يتبنى ذلك علميًّا أو عمليًّا في أحسن الأحوال التي ليس فيها حُسن.

لقد بسط شيخ الإسلام ابن تيمية هذه القضية في كتابه الممتع “اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم” فقرر أن أحكام تميُّز أهل الطاعة عن غيرهم، وإلزام الكُفار بأحكام الذل والصغار ومعاملة المنافقين بأحكام الإغلاظ، وزجر المجاهرين بالبدع أو بالفجور بالهجر كل ذلك إنما يكون مع الكثرة والقوة؛ حيث إنه لا يمكن مع القلة والضعف ولو أمكن لما حقق أهدافه من زجر المنحرفين وردع الناس عن مثل حالهم، بل لأدّى إلى عكس ذلك من تحييز الصالحين وتسليط مخالفيهم عليهم، ومثل هذا لا يُشرع بحال بل يُنهى عنه.

فإن الله قد شرّع التقارب والتأليف في أول مرة الإسلام، وكان ذلك من أسباب نشره وإزالة غربته الأولى، وهذا هو المشروع في حق كل صالحٍ مستضعَف في مكانٍ أو زمانٍ ما؛ إذ هو الممكن الذي يحقق مقصود الشرع في هذه الحال كما نقل ابن تيمية عن الإمام أحمد –رحمهما الله-.

ولم تنزل أحكام التميز والإغلاظ والهجر إلا بعد أن بلغ المؤمنون الصالحون كثرةً وقوةً في دولة المدينة فجعلوا ذلك ممكنًا ومحققًا لأهدافه الشرعية المقصودة فتكون سببًا لزيادة طاعة الله في الأرض لا في نقصها؛ فلذلك لم تُشرع هذه الأحكام أول ما قامت دولة المدينة، ولا بعد بدرٍ الكُبرى التي مثّلت فارقًا هائلًا في قوات المسلمين، وإنما تأخرت وتدرّجت مع نمو القوة المتدرج حتى بلغت القوة حدًّا يحمل هذه الأحكام ويحقق المصالح المقصودة من تشجيعها قرب نهاية العهد النبوي الشريف.

فبلغ من واقعية الشريعة أن كان تنزيل أحكامها على غير الواقع الذي شُرعت في مثله خروجًا ممنوعًا عن الشريعة ودليلًا على جهل من يتبنى ذلك علميًّا أو عمليًّا في أحسن الأحوال التي ليس فيها حُسن.

في التفضيل والثناء والتكليف

إن أفضل الأعمال للمسلمين ومن الذي يُثنى عليه منهم، وما الواجب على كل معايَن؟ أسئلةٌ قديمة جديدة لا تزال تتردد ويكثر كلام الناس فيها، الجواب عنها في الحقيقة بعلمٍ وعدل يظهر واقعية الشريعة في أجلى وأزهى حقائقها وتطبيقاتها.

أثبتت أدلة الشريعة أن هناك ثلاثة أشياء هي أفضل الأعمال، وهي ثلاثة أقوال عن أهل العلم:

أولها: العلم لما ورد أن العلماء ورثة الأنبياء.

وثانيها: الصلاة لجواب النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- عندما سُئل عن أفضل الأعمال فقال: «الصَّلاة عَلى وَقتِها».

وثالثها: الجهاد لوصف رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- الإسلام وأعماله قائلًا: «وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله» فقرر المحررون من أهل العلم أن التفضيل في هذه الأدلة ليس تفضيلًا مطلقًا، بل إنه يتعلق بأمرين:

أولهما: الشخص وما يقدر عليه ويثمر فيه.

وثانيهما: الظرف وما يُحتاج إليه فيه.

فالأفضل لصاحب الذكاء العلمي الحرص على العلم، والأفضل لصاحب السلامة والوقت الإقبال على الصلاة، والأفضل لصاحب القوة ومهارات القتال التوجه للجهاد، هذا من جهة مواهب كلٍّ منهم، ثم الأفضل في وقت الصلاة تقديمها والاعتناء بها، وفي وقت الجهل والشبهات العلم تحصيلًا وبذلًا، وفي وقت القتال وتكالب الأعداء الإعداد للجهاد والتوجه له، وهذا من جهة الظرف الذي يكون فيه الشخص وكل ذلك واقعية.

فلكل إنسانٍ مزاياه التي إن أحسن استثمارها وأخلص في ذلك لله كان مستحقًّا للثناء عليه من الله وملائكته وعباده الصالحين، وهذه قمة الواقعية في التعامل مع تنوع أصناف البشر الذين قد يجمعهم الإيمان ومشروعه في الأرض وتُفاوت بينهم المواهب والصفات.

وقد أثنى النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- على جملةٍ من أصحابه ونوّع وجوه الثناء، فهناك من أثني عليه في قراءة القرآن، وهناك من أُثني عليه بعلم الحلال والحرام، وهناك من أُثني بالقضاء بين العباد، وهناك من أُثني عليه بالحرص على الحديث، وهناك من أُثني عليه بكمال الأمانة، وهناك من أُثني عليه بكمال القوة في الجهاد، وهكذا في تفاصيل كثيرة ليس المراد حصرها وإحصاؤها إنما بيان تنوعها.

فلا شك أن تنوع ثناءاته -صلَّى الله عليه وسلَّم- على أصحابه -رضِيَ الله عنهم- يدل على أن ما يُثنى به على شخص ليس هو بالضرورة ما يُبحَث عنه للثناء على غيره، فلكل إنسانٍ مزاياه التي إن أحسن استثمارها وأخلص في ذلك لله كان مستحقًّا للثناء عليه من الله وملائكته وعباده الصالحين، وهذه قمة الواقعية في التعامل مع تنوع أصناف البشر الذين قد يجمعهم الإيمان ومشروعه في الأرض وتُفاوت بينهم المواهب والصفات.

وكذلك الواجب على المعيَّن علمًا وعملًا منه ما هو مشترك بين المكلفين اعتقادًا وعملًا، وهو من المقدور للجميع ولو بصورةٍ من الصور الشرعية، ثم تأتي التفاوتات بحسب الواقع فمن احتاج إلى الكسب لزمه معرفة المشروع منه والممنوع، والعمل بالمتاح من المشروع مع التحرز عن الممنوع، ومن احتاج إلى الزواج لزمه علم أحكامه ثم الحرص على وسائل العمل بها، وهكذا في كل الاحتياجات الشخصية الخاصة.

كما تأتي التفاوتات بحسب احتياجات الواقع العام، ففي وقت هجوم الأعداء يجب الجهاد، وفي وقت انتشار الشبهات يجب العلم الذي يدفع أباطيلها، وفي وقت انتشار المكاسب والبيوع المحرّمة يجب التمييز بين ما يحل وما يحرم منها علمًا، والحرص على تجنب الحرام من ذلك عملًا، وهكذا في كل الاحتياجات المجتمعية العامة، ففي كل ما سبق وجدنا أن كلًّا من التفضيل والثناء والتكليف تجلّى فيه مراعاة الواقع بحُسن فهمه وبحسن التعامل معه، وبحُسن تحديد الأهداف المثلى فيه، وهذه هي واقعية الشريعة.

الفقه في العلم

كما ترجم الإمام البخاري -رَحمه الله- في صحيحه فهذا هو العلم وما بقي إلا فقهاءٌ يحسنون فهم العلم، فيفهمون واقعية الشريعة ويحسنون فهم الواقع، فيحسنون تنزيل الأحكام على الواقع بما يحقق أعلى المصالح ويدفع أشد المفاسد ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:269].

المراجع:
(1) راجع واجب المستضعفين.
(2) راجع زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم، والشرح البديع في معالم في الطريق لسيد قطب.

التعليقات