الفهم وفق منطق الأحداث

كثيرةٌ هي الأخبار التي يتداولها الناس في عالم اليوم، وذات مصادر شتّى، كما أن من ينشرونها وينقلونها يقومون بذلك من أجل أسبابٍ متنوعة، ومع حال الإغراق غير المنضبط والمتفاوت في درجات مصداقيته تزداد حاجة الإنسان العاقل إلى أداةٍ يستخلص بها الحقائق من بين طوفان المعلومات المبثوثة أمام عينيه وملء أذنيه ليفهم الواقع فهمًا أقرب إلى الصواب، وليس فقط كما يُراد له أن يفهمه.

نقد ابن خلدون للتاريخ

أخبار التاريخ حكاياتٌ مرسلة يُحكى فيها الصواب والتحثيث، كما يُحكى فيه الكذب والخيال، لهذا نظر ابن خلدون -رَحمه الله- إلى أخبار التاريخ نظرةً ناقدة مستفيدًا من عقليته التحليلية المُبدعة، ومن خبرته المباشر بتقلبات الواقع السياسي الذي كان جزءًا منه، لقد جعل ابن خلدون لقبول الخبر التاريخي معيارًا داخليًّا يرجع إلى ذات الخبر، ومدى إمكانه ومعقوليته، ومدى اتساقه مع معتاد الزمان والمكان، مع الشواهد الداعمة أو المعارضة بما يرجح صدقه وقبوله، أو يرجح كذبه ورده.

فكان ما سبق معيارًا بنى عليه ابن خلدون قبوله أو رده للحكايات التاريخية من خلال الخبرة والقياس ودرجة الإلمام بمنطق الأحداث في الزمان والمكان المعيَّنيْن ومن أهلهما.

إذ أن منطق الأحداث ليس قانونًا آليًّا جامدًا، بل إن فيه مكوناتٍ متنوعة؛ فبعض مكوناته واعتباراته أكثر ثباتًا، وبعض مكوناته واعتباراته عرضةٌ للتغيرات المتنوعة..

الأحداث ومنطقها

إن منطق الأحداث هو قانونها الداخلي المستخلص من تمييز ما يؤثر عليها بدرجات التأثير المتفاوتة، ومعرفة ما يمكن وما لا يمكن باعتبارات الأهداف والظروف الواقعية، مع النظر في سمات الفئات والأفراد الفاعلين ومقارنتهم بأشباههم في الماضي والحاضر، فيتشكل في العقل سياقٌ عام، أو مجموعة سياقات تثمر حُسن قراءةٍ للواقع وبصيرة في توقع احتمالات المستقبل.

يُبنى هذا المنطق من خلال تراكمٍ معرفيٍّ واسع بالتاريخ والحاضر بما يتيحه من مواد صحيحة متنوعة ومتشابكة وعلى أرضية عقليةٍ تحليليَّةٍ تركيبية ذات موهبةٍ فطرية مصقولة بآراء أهل الوعي من السابقين والمعاصرين، فيميز صاحب هذا المنطق الناقد بين الأخبار المتنوعة؛ إذ يضعها في سياقاتها المناسبة، فيقبل ويرد مفرِّقًا بين الأخبار المُهدَّفة ذات الدلالة وغيرها، معتبرًا نوعية المصادر من القرائن، فيصل إلى صورةٍ أقرب للحقيقة، أو إلى صور ذات احتمالاتٍ بدرجاتٍ متفاوتة.

مرونة منطق الأحداث

إذ أن منطق الأحداث ليس قانونًا آليًّا جامدًا، بل إن فيه مكوناتٍ متنوعة؛ فبعض مكوناته واعتباراته أكثر ثباتًا، وبعض مكوناته واعتباراته عرضةٌ للتغيرات المتنوعة، كما أن محورية الإنسان ككائنٍ حيٍّ ثريٍّ بالأفكار والمشاعر مما قد يصدر عنه ما لا يُتَوقَّع من الأفعال أو ردود الأفعال يجعل منطق الأحداث دائمًا ما يتسم بقدرٍ من المرونة المناسبة.

فلكل نوعٍ من الأحداث طبيعةٌ خاصة، وسماتٌ ملائمة أو ملازمة لتلك الطبيعة، وإدراك تلك الطبيعة له أهميةٌ كبرى في إدراك منطقها..

وهذه المرونة لا بد أن تحملها مرونةٌ مكافئة في عقل المتابع الناقد، لا تكون أقل منها فتعجز عن مواكبة تغيرات الأحداث، وتتأخر عن ركب الفهم الصحيح بما يوقعها في الأخطاء ويفوّت عليها الفرص، ولا تكون أكثر منها بحيث يفقد المنطق تماسكه، وتتلاعب الأفكار المتضاربة بالعقل حتى يسهل تحريكه وتوجيهه، بل وإيصاله أحيانًا إلى مرحلة التشتت المدمر فالاتزان الواقعيُّ هو المطلوب.

طبيعة الأحداث

فلكل نوعٍ من الأحداث طبيعةٌ خاصة، وسماتٌ ملائمة أو ملازمة لتلك الطبيعة، وإدراك تلك الطبيعة له أهميةٌ كبرى في إدراك منطقها، فعندما تكون الأحداث حربًا مسلّحة يكون لها قوانين غير قوانين التنافس في ظل سلامٍ ترغب كل الأطراف في الحفاظ عليه.

وعندما تكون الأحداث ثورةً متفلتة يكون لها قوانين مختلفة عن قوانين التدافع في ظل الأوضاع القوية المستقرة، وعليك أن تقيس على ما ذكرنا من أمثلة ما ترى من أحداثٍ لها طبيعتها الخاصة مما لم نذكر، لكن ذلك بطبيعة الحال لا يدعم وهم الافتراق الكامل بين منطق الأحداث المتباينة؛ إذ تبقى هناك نسبٌ مشتركة وقواعد أساسية ثابتة تتعلق بثوابت ومشتركات إنسانية، ومن هنا صح قول: “إن الحرب هي سياسةٌ بشكلٍ آخر، والسياسة هي حربٌ بلغةٍ أخرى” فهناك ثوابت ومشتركات في ظل التباين والاختصاصات.

الظرف وفرص التأثير

الأحداث حركةٌ في واقع، فهي لا توجد مجرّدةً إلا في خيال الأذهان، وسياقها الظرفيُّ العام له دورٌ كبير في إعطائها فرصة النجاح والتأثير، أو في معارضة ذلك وتعطيله، فلا يمكن نقد الأحداث وقيمتها بمجرد ما نتج عنها دون النظر إلى الظرف وقيمته في الوصول إلى الناتج النهائي.

إن منطق الأحداث يتأثر بشدة بالسياق الخارجي المحتف بتلك الأحداث باعتبارها مؤثِّرًا ومتأثِّرًا بالظرف المحيط بطبيعتها الحيوية الملازمة لها.

فحركة الاحتجاجات الشعبية مثلًا حققت تغييرًا نسبيًّا في نظام الحكم التونسي فيما عُرِف بثورة الياسمين، بينما أن حركة احتجاجاتٍ شعبية أقوى وأسبق في الجزائر مثلًا أدّت إلى انقلابها العسكري وعشريتها السوداء، وإلى تأخِّرها عن الربيع العربي المحيط بها.

والعامل الأكبر في ذلك التباين الهائل في النواتج هو الفرق بين الظرفين على المستويات الثلاثة: الداخلي والإقليمي والدولي، مع التسليم بأن هناك عوامل أخرى مشاركة بطبيعة الحال في ذلك.

والمقصود إن منطق الأحداث يتأثر بشدة بالسياق الخارجي المحتف بتلك الأحداث باعتبارها مؤثِّرًا ومتأثِّرًا بالظرف المحيط بطبيعتها الحيوية الملازمة لها.

الطريق إلى صوابية الفهم

إن حيازة منطق الأحداث وحُسن استثماره في فهم الواقع واستشراف المستقبل يحتاج إلى أمرين:

أولهما: موسوعيةٌ في المعلومات بقدر الإمكان تجنِّب الأخلاد الناشئة عن غياب أجزاء هامة من الحقيقة.

وثانيهما: اتزانٌ في التحليل والاستنتاج يقلل من سلبية تأثير الميول الفردية الناشئة عن التفاوت في طبائع وصفات الناقدين؛ فالمتشائم قد تغلبه طبيعته في الرؤية والتفسير مثلًا، والمتهور قد يكبُر تقديره لما يتجاوب معه دون غيره مما يهمله مثلًا، وهكذا.

ولما كان الإنسان الواحد مهما اتسع فهو محدود، ومهما اتزن فلا يخلو من ميول؛ فلذلك نميل إلى تثمين الجهود الجماعية التي تقوم على أساس التكامل لا التماثل بالدرجة الأولى؛ إذ أنها أقدر على الوصول لأفضل فهم واستشراف وحل.

والله أعلى وأعلم.


التعليقات