قل هو من عند أنفسكم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد..

فإن الله تعالى قد أرسل الرسل وأنزل الكتب لخير الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وذلك بتوحيدهم لله ونفي الشريك له وإخلاص العبادة لله في كل ما يأتي العبد ويذر، كما دلت على ذلك النصوص الشرعية، قال الله تعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وقال تعالى: “وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة”، والمؤمنون يعلمون ذلك ويستيقنونه، ويعلمون أن المصلحة في كل ما أمروا به أو نهوا عنه راجعة إليهم، والله تعالى هو الغني الحميد، وأن العباد مهما عظم سلطانهم وعلا شأنهم لن يملكوا أن يضروه تعالى أو ينفعوه، كما ورد في الحديث القدسي: “يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني”.

ويستيقن المؤمن أن ما أصابه من الحسنات مما يحبه من الأمور الدينية أو الدنيوية فمن فضل الله الغني وعطائه غير المجذوذ، وأن ما أصابه من السيئات من مصائب الدنيا أو عقاب الله فبسبب ما جناه وكسبته يداه، قال الله تعالى: “ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك”، لذلك فإن موقف المؤمنين من كل ما أمروا به ونهوا عنه هو موقف القبول والتسليم والانقياد والرضا عن الله تعالى كما قال تعالى: “رضي الله عنهم ورضوا عنه” فالمؤمن يرضى عن الله تعالى وعن حكمه وشرعه في كل أحيانه، حتى وإن بدا ظاهره في غير مصلحته أو أنه ربما عاد عليه بالضرر، لأن المسلم يؤمن بالكتاب والسنة ويعتقد صوابهما ويصدق ما جاء فيهما بيقين لا ارتياب فيه، ويرضى بما قضى به ربه باطمئنان لا اضطراب معه، وإن كانت بدايات الأمور لا تقود ظواهرها إلى ما ترجوه النفوس وتأمله.

ويسول الشيطان للمشركين والمنافقين أن كل ما بهم من شر وسوء إنما راجع لأهل الإيمان، وأنه لولا الرسل وأتباعهم وتمسكهم بالدين لما حلت بهم المصائب والنكسات…

في غزوة الأحزاب عندما جمعت قريش القبائل وحزبت الأحزاب وتحالفت مع يهود المدينة ضد المؤمنين ورموهم عن قوس واحدة، وكان موقف الأحزاب في ظاهره أقوى من موقف المسلمين، وذلك في وضع عصيب شديد بينه الله تعالى بقوله: “إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا”، فالأبصار قد زاغت والقلوب اضطربت حتى بلغت الحناجر من شدة الخوف والفزع، وابتلي المؤمنون وزلزلوا الزلزال الشديد، وظن المنافقون أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستأصلون ويبادون، بينما لم يُحدث هذا الموقف الشديد عند المؤمنين حقا وهْنا أو ضجرا بل عدُّوا ذلك مصداق ما أخبرهم به ربهم، وكان من أسباب زيادة إيمانهم، كما قال تعالى: “ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما”، وذلك بعكس موقف الكفار والمنافقين حيث لا يثقون في ما جاءت به النصوص الشرعية ولا يثقون إلا فيما يعدهم به الشيطان ويزخرفه لهم ويزينه من الباطل، “يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا”، “وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه”، وحتى يقول قائل من المنافقين يوم الأحزاب: “إن محمدا يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط”.

ويسول الشيطان للمشركين والمنافقين أن كل ما بهم من شر وسوء إنما راجع لأهل الإيمان، وأنه لولا الرسل وأتباعهم وتمسكهم بالدين لما حلت بهم المصائب والنكسات، يتطيرون بهم، كما قال تعالى في حال قوم فرعون في حديثهم عن موسى ومن آمن معه: “وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه”، قالوا: “ما أصابنا هذا إلا بك يا موسى وبمن معك، ما رأينا شرًّا ولا أصابنا حتى رأيناك”، وقد تكرر هذا من الكفار في كل عصر ومصر فقالت ثمود لنبي الله صالح: “اطيرنا بك وبمن معك” أي ما حاءنا هذا إلا من شؤم صالح، ومن آمن به”..

وكما قالوا لرسول رب العالمين محمد صلى الله عليه وسلم: “وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك”، أي وإن تنلهم شدة من عيش، وهزيمة من عدو، وجراح وألم، قالوا: هذا من عندك، أي بسببك من إساءة التدبير وإساءة النظر، وبسبب ما أمرتنا به من دينك، والرجوع عما كنا عليه، وكما قال أهل القرية للمرسلين: “إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ”..

والمسلم لأجل ذلك بحاجة إلى متابعة أدلة الشريعة وعدم محاكاة مخالفينا في سلوكهم وأخلاقهم، والتثبت من كل ما يفد إلينا من قبلهم في مجالات الفكر والثقافة والعادات، حتى لا نقع في ما يغضب الرب تعالى ونحن لا ندري.

ولا شك أن ما جاءت به الرسل صلى الله عليهم وسلم ليس سبباً لشيء من المصائب، ولا تكون طاعة اللّه ورسوله قط سبباً لمصيبة، بل طاعة الله والرسول لا تقتضى إلا جزاء أصحابها بخيري الدنيا والآخرة، ولكن قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم، لا بما أطاعوا فيه الله والرسول، كما لحقهم يوم أحُد بسبب ذنوبهم، لا بسبب طاعتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم تجد هؤلاء الذين يربطون بين التدين وبين المصائب لا يحضون على الخير ولا يعملون على إشاعته، بل يحضون على الشر ويسعون في نشر الفساد بأساليب متنوعة تحت رايات متعددة زائفة ويقيمون لذلك المسابقات ويرصدون لها الجوائز السخية ويستخدمون كافة وسائل الدعاية للترويج لذلك بين الناس، لأن الشيطان يزين لهم أن في ذلك حصول السعادة وتحقيق التفوق والتميز على الأقران، وكثير من أهل الإسلام الذين لم ترسخ في قلوبهم حقائق الإيمان ولم تثبت في عقولهم حكمة الأحكام الشرعية يتابعون هؤلاء المحادين لله ورسوله ويمشون في دروبهم وركابهم، كما أشار إلى ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: “لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: اليهود والنصارى يا رسول الله قال” فمن؟” أي فمن غيرهم إن لم يكونوا هم، وفي رواية: “لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرًا بشبر وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم؟ قال :ومن الناس إلا أولئك؟”، ولو نظرنا لكثير من المستجدات التي حلت ببلاد المسلمين لوجدنا الكثير من المسلمين يتابعون الكفار فيها وهم قد لا يعلمون منبعها عندهم، وأنها هي من سوء ظن الكفار بالله تعالى وبعلمه وحكمته، كما جاء في قوله تعالى: “يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية”.

والمسلم لأجل ذلك بحاجة إلى متابعة أدلة الشريعة وعدم محاكاة مخالفينا في سلوكهم وأخلاقهم، والتثبت من كل ما يفد إلينا من قبلهم في مجالات الفكر والثقافة والعادات، حتى لا نقع في ما يغضب الرب تعالى ونحن لا ندري.

والمسلم في الوقت نفسه راض عن ربه مطمئن لما قدره من غير أن يعترض عليه أو يتذمر لما أصابه، بل لا يلوم إلا نفسه ولسان حاله وكأنه يخاطب نفسه قائلا لها: “قل هو من عند أنفسكم” وعمله الدائم الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى..

المؤمن عندما يصيبه ما يكره من إخفاق أو أذى عند قيامه بما يتصور أنه من واجباته، فإنما يتهم نفسه ويطعن في علمه وعمله ونيته قبل أن يلقي باللوم على غيره، لأنه يعلم أن ما أصابه إنما كان بسببه وأنه ما أتي إلا من قبل نفسه، فهو يسيء الظن بنفسه قبل أن يبادر باتهام غيره، وقد دأب كثير من الناس إذا أصابهم ما لا يحمدونه علقوا ذلك على كيد المخالفين ومؤامراتهم، ولا يكاد يفتش في نفسه وينظر في تصرفاته ليدرك مدى مسئوليته عما أصابه، وإذا كان التصور السليم لا ينفي مؤامرات الأعداء ومكائدهم وسعيهم الدؤوب لإلحاق الضرر والأذى بالمسلمين، بل يعد نفي هذه المؤامرات والمكائد من قبيل السذاجة، لكن لا ينبغي تبرئة النفس من كل سبب للقصور أو النقص، بل لا شك أن من أسباب نجاح كيد الكائدين ومؤامراتهم هو أخطاء النفس وتقاعسها عن القيام بما وجب عليها.

والمسلم في الوقت نفسه راض عن ربه مطمئن لما قدره من غير أن يعترض عليه أو يتذمر لما أصابه، بل لا يلوم إلا نفسه ولسان حاله وكأنه يخاطب نفسه قائلا لها: “قل هو من عند أنفسكم” وعمله الدائم الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى، وهو يعلم أنه لن ينقذه مما حل به غير لجوئه إلى الله تعالى واستغاثته به وحده في كشف ما نزل به.

نسأل الله تعالى من فضله أن نكون من الذين إذا أصابهم الخير علموا أن ذلك بفضل الله ورحمته فأثنوا عليه بذلك ونسبوه له، كما قال تعالى: “وما بكم من نعمة فمن الله” ولم ينسهم الشيطان أنفسهم فيغرهم بها حتى ينسبون ما بهم من توفيق وخير إلى جهدهم وفهمهم وعلمهم، وأنه إذا أصابهم شر أو مصيبة علموا أن ربهم الرحمن الرحيم لم يظلمهم وإنما ذلك بسبب تقصيرهم وذنوبهم وعدوانهم وبما كسبته أيديهم، فلاموا أنفسهم وسارعوا إلى التوبة والاستغفار، وكانوا ممن قال الله فيهم: “إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذاهم مبصرون”.

مصدر المقال: موقع صيد الفوائد

التعليقات