إنها لمباركة حقا تلك الليلة

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

وإنها لمباركة حقا تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية، والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الإلهي في حياة البشر; والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن ترجمة يسيرة، تستجيب لها الفطرة وتلبيها في هوادة; وتقيم على أساسها عالما إنسانيا مستقرا على قواعد الفطرة واستجاباتها متناسقا مع الكون الذي يعيش فيه، طاهرا نظيفا كريما بلا تعمل ولا تكلف; يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولا بالسماء في كل حين.

وقد فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر، وفصل فيها كل شأن، وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق، ووضعت الحدود، وأقيمت المعالم لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين…

ولقد عاش الذين أنزل القرآن لهم أول مرة فترة عجيبة في كنف السماء، موصولين مباشرة بالله; يطلعهم أولا بأول على ما في نفوسهم; ويشعرهم أولا بأول بأن عينه عليهم، ويحسبون هم حساب هذه الرقابة، وحساب هذه الرعاية، في كل حركة وكل هاجسة تخطر في ضمائرهم; ويلجؤون إليه أول ما يلجؤون، واثقين أنه قريب مجيب.

ومضى ذلك الجيل وبقي بعده القرآن كتابا مفتوحا موصولا بالقلب البشري، يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر; ويحول مشاعره بصورة تحسب أحيانا في الأساطير!

وبقي هذا القرآن منهجا واضحا كاملا صالحا لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان. حياة إنسانية تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الإلهي المتميز اطابع، بكل خصائصه دون تحريف. وهذه سمة المنهج الإلهي وحده. وهي سمة كل ما يخرج من يد القدرة الإلهية.

إن البشر يصنعون ما يغني مثلهم، وما يصلح لفترة من الزمان، ولظرف خاص من الحياة. فأما صنعة الله فتحمل طابع الدوام والكمال، والصلاحية المستمرة وتلبية الحاجات في كل ظرف وفي كل حين; جامعة بين ثبات الحقيقة وتشكل الصورة في اتساق عجيب.

أنزل الله هذا القرآن في هذه الليلة المباركة.. أولا للإنذار والتحذير: إنا كنا منذرين. فالله يعلم غفلة هذا الإنسان ونسيانه وحاجته إلى الإنذار والتنبيه.

وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجل في تنزيل هذا القرآن، بهذا اليسر، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق. وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم، والمجتمع البشري إلى حلم جميل، لولا أنه واقع تراه العيون!

وهذه الليلة المباركة بنزول هذا القرآن كانت فيصلا وفارقا بهذا التنزيل: فيها يفرق كل أمر حكيم..

وقد فرق فيها بهذا القرآن في كل أمر، وفصل فيها كل شأن، وتميز الحق الخالد والباطل الزاهق، ووضعت الحدود، وأقيمت المعالم لرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة إلى يوم الدين; فلم يبق هناك أصل من الأصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح ولا مرسوم في دنيا الناس، كما هو واضح ومرسوم في الناموس الكلي القديم.

وكان ذلك كله بإرادة الله وأمره، ومشيئته في إرسال الرسل للفصل والتبيين: أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين.

وكان ذلك كله رحمة من الله بالبشر إلى يوم الدين: رحمة من ربك إنه هو السميع العليم..

وما تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجل في تنزيل هذا القرآن، بهذا اليسر، الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب، ويجعل الاستجابة له تتم كما تتم دورة الدم في العروق. وتحول الكائن البشري إلى إنسان كريم، والمجتمع البشري إلى حلم جميل، لولا أنه واقع تراه العيون!

إن هذه العقيدة – التي جاء بها القرآن – في تكاملها وتناسقها – جميلة في ذاتها جمالا يحب ويعشق; وتتعلق به القلوب! فليس الأمر فيها أمر الكمال والدقة وأمر الخير والصلاح. فإن هذه السمات فيها تظل ترتفع وترتفع حتى يبلغ الكمال فيها مرتبة الجمال الحبيب الطليق. الجمل الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها، ثم يجمعها، وينسقها، ويربطها كلها بالأصل الكبير.

رحمة من ربك نزل بها هذا القرآن في الليلة المباركة.. إنه هو السميع العليم. يسمع ويعلم، وينزل ما ينزل للناس على علم وعلى معرفة بما يقولون وما يعملون، وما يصلح لهم ويصلحون به من السنن والشرائع والتوجيه السليم.

ملاحظة: المقال منقول من كتاب “في ظلال القرآن” سورة الدخان.

التعليقات