بين مُستبد ومُستبد… اختلاف الأسلوب لا يُفسد للاستبداد قضية!

تتفق مناهج الاستبداد على عدد من النتائج التي يتغيّاها ويتحرّاها المستبد، فهذه هي الغايات التي يريد أن يصل إليها، كما تتفق على عدد من الأصول العامة المنهجية التي تؤسس للحكم الاستبدادي.. وهذه بطبيعتها تُشَكِّل «طبائع الاستبداد»، التي حاول أن يتحرّاها الكواكبي رحمه الله وغفر الله في كتابه الذي يحمل نفس الاسم، والذي عني فيه إلقاء الضوء على الأصول العامة للاستبداد وطبائعه وطرائقه، والتي لا تختلف من مستبد إلى مستبد، وإن كانت أغلبية، وقد تكون اختيارية، أي قد لا تجتمع كل هذه الأصول في مستبد واحد.

ومع ذلك فإن لكل مستبد «نكهته» و«لمسته» التي تختلف عن المستبد الآخر، ومعرفتها لا تقل عن معرفة الأصول العامة للاستبداد، بل كأنها تفوقها أهمية في معرفة مفاتيح شخصية المستبد، وبالتالي كيفية التعاطي معه، وتظهر هذه الأساليب في بعض المواقف البسيطة «الكاشفة» عن هذا الأسلوب أو ذاك، والخطأ في تنزيل أسلوب مستبد على آخر يؤدي إلى نتائج سلبية للغاية، ولهذا فإن التعامل ومعالجة الاستبداد يجب أن تنطلق من منطلقين أساسين:

  • الأول: معرفة المناهج العامة للاستبداد في كل زمان ومكان، والتي لا يكاد يخلو منها مستبد.
  • الثاني: معرفة الطرائق الخاصة للمستبد المعين، لتحديد سلوكه وتوقعه، ومعرفة طريقته للوصول إلى النتيجة التي يتحراها كل مستبد.

وتطبيقا للمنهج التجريبي والاستقرائي فإن الباحث ينظر إلى جزئيات وفروع مواقفه للوصول إلى (القانون) العام أو القاعدة الكلية التي تحكم هذه الجزئيات، وبالتالي يمكن توقع سلوكه عند حصول غيرها من المواقف التي تعرض له، وبالتالي يتم وضع خطط المواجهة الأصلية والبديلة بناء على ذلك…

جزئية تبين وتكشف عن السياسة العامة للسادات، فالمستبد في هذه الحالة لا يعمل (بغشومية) و(غباء)، بل يحاول أن يظهر دائما أنه في (دولة القانون)، وأنه (كبير العائلة المصرية)، ولا يصح له أن يتبع هذه الطريقة مع المخالف…

ومن المواقف المشهورة بين السادات وأنيس منصور الذي كان جليسه «المثقف»، وعرّابه، وقد كان أنيس يطمح أن تكون منزلته بالنسبة للسادات بمنزلة هيكل من عبد الناصر، وإن لم يصل إليها لاختلاف طبيعة ناصر والسادات، وكذا اختلاف ثقافة وحضور(كاريزما) أنيس وهيكل.. ففي استراحته الشهيرة بالقناطر الخيرية التي شهدت لقاءاته الكثيرة بالمثقفين والسياسيين والفنانين، فاجأ السادات أنيسًا بقوله: تعرف يا أنيس أني أستطيع أن أذهب بك إلى السجن الآن؟!

ولا يُعْرَف لهذا الهجوم المفاجئ من السادات سبب إلا ذكاؤه الفطري للاستطلاع رد فعل جليسه، وتَفَرُّسه الريفي في هذا الرد الذي يُشَكِّل دائمًا جزءً من تكوين الرأي في هذا التابع أو الجليس، لا سيما وأن هذا الجليس يعتبر بمثابة كاتم السِّر له، وقد كان يعده ليكون فيما بعد (مُدَوِّن) مذكراته وسيرته الذاتية، فضلا عن الإحساس الدائم بالدونية لدى العسكري عامة، لا سيما أمام من يعتبرون أنفسهم (مثقفين)، والإحساس الخاص بالدونية، على ما فصله هيكل في (خريف الغضب)، والذي يدفع السادات دائما لاختبار من أمامه، وتلمس رد فعله وتابعيته له، بالنظر إلى البيئة الاجتماعية التي نشأ فيها السادات، والعوامل البيولوجية والخَلْقية التي كانت من أسباب هذا الشعور، الذي يدفعه أحيانا إلى انتحال السلوك المقابل، والتلبس بجنون العظمة… فاجتمع له سببان في الشعور الدائم بالدونية، السبب العام والسبب الخاص.

لكن رد فعل أنيس لم يكن مُبهرًا، ولم يكن إبداعيًا، لكنه في الوقت نفسه لم يكن مخيفا، ولعله في رده غير المبدع قد (قصد) طمأنة السادات (لمحدودية) رد الفعل هذا، فإن (الإبداع) يخيف العسكري دائمًا! ولهذا قد يقال أن عبقريته وإبداعه في معرفته برد الفعل (الغبي) الذي لا يحرك حنقة السادات عليه..

قال أنيس في تلقائية مفتعلة: (طبعا يا ريس.. وهل هذا يحتاج منك إلى كلام أو نقاش؟.. أنت يا سيادة الرئيس تستطيع أن تأتي بهذا العسكري الواقف بعيدا عنا، وأن تأمره بأن يأخذني إلى السجن، وينتهي الأمر عند هذا الحد، ولن يناقشك أحد، فيما سوف تفعل.. لا العسكري سوف يناقش.. ولا أي أحد آخر سواه!)

لا فرق بين مستبد ومستبد، فالجميع سواء، والاستبداد في سلوكهم هو الغاية، واختلاف الوسيلة ليس مُبررًا للحنين لواحد منهم دون الآخرين، فالجميع في الاستبداد سواء، واختلاف الوسيلة لا تفسد له قضية!

لكن رد فعل السادات على هذه المقولة التي يبدو أنها أعجبته، أعني أعجبه فيها عدم إبداع أنيس، وإظهاره للخضوع والتابعية، فقال ضاحكا ضحكته المشهورة التي تختلط بالنرجسية وجنون العظمة: (لا يا أنيس.. أنا لن أذهب بك إلى الحبس بهذه الطريقة.. وإنما سوف أضع قطعة حشيش في جيبك، ثم أبلغ عنك!!)..

هذه في الحقيقة جزئية تبين وتكشف عن السياسة العامة للسادات، فالمستبد في هذه الحالة لا يعمل (بغشومية) و(غباء)، بل يحاول أن يظهر دائما أنه في (دولة القانون)، وأنه (كبير العائلة المصرية)، ولا يصح له أن يتبع هذه الطريقة مع المخالف… نعم النتيجة بينه وبين المستبد (الفاجر) واحدة، وهي سجن المعارض بغير جريرة أو ذنب، لكنها (الطرائق) التي تختلف من مستبد لآخر، والأساليب التي تتنوع، ولعل أنيس قد ذكر للسادات طريقة سلفه عبد الناصر في التعاطي مع الخصوم، إما عن قصد، حتى يترك للسادات فرصة بيان الاختلاف أو التعديل، وحتى يؤكد على الخضوع، والتسليم بقدرات (الزعيم)، وإما عن غير قصد للمفاجأة، وبيان الطريقة المعتادة في ذلك، والتي تربى عليها أنيس في زمن عبد الناصر.

ومن العجائب أن الجماهير أو العامة أو الملأ، تقع في حُب المقارنة، وتميل إلى تحسين الماضي، في حنين مَرَضي، لا مُبرر له سوى البكاء والعويل، والتنفيس عن بعض الضغط الحاضر، بينما يتجه البعض الآخر إلى تبرير موقف (الزعيم) الحاضر، وأنه (مضطر) لهذا السلوك، وفي الحقيقة فإنهم ينسون أن يتناسون أنه لا فرق بين مستبد ومستبد، فالجميع سواء، والاستبداد في سلوكهم هو الغاية، واختلاف الوسيلة ليس مُبررًا للحنين لواحد منهم دون الآخرين، فالجميع في الاستبداد سواء، واختلاف الوسيلة لا تفسد له قضية!


التعليقات