هل الحكم بمنع الجُمَع والجماعات في زمن جائحة كورونا موافق لمقاصد المنع؟

من عجيب نازلة كورونا أن تجد باحثا ممن يشار إليه بالبنان في التقعيد المقاصدي يؤكد على خطأ من ينتقد منع الجمع والجماعات بوجود تجمعات أكبر وأكثر كالأسواق ووسائل المواصلات، وكعدم المنع التام للكنائس! كيف يا شيخنا الكريم جزمت بخطأ الاستدلال، وقد تبين المقصد، وانجلى المحتد، فهل المقصد من الحكم منع الجُمَع والصلوات جماعة، أم منع التجمعات، ومنها الجمع والصلوات جماعة؟ لا شك أن المقصود هو منع التجمعات، ومنع الجمع والصلوات جماعة واحدة من وسائل تحصيل هذا المقصد، فليست الجمع والجماعات مما يصح أن يقصد منعها لذاتها إجماعًا…

وإذا كان المقصود هو منع التجمعات، وظهر أن التجمعات لم يتم منعها مطلقا؛ تبين لكل ذي لُب أن وسيلة المنع من الجمع والجماعات لا تحقق المقصود الذي تفتون من أجله بهذا المنع!

والقاعدة أن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد كما ذكر العز بن عبد السلام رحمه الله في قواعده، وقد ظهر جليا وبصورة عملية أن منع التجمعات غير مقصود أصالة، ويظهر ذلك من السماح بالتجمعات في الأسواق، ووسائل المواصلات والتجمعات الخاصة ونحوها، وبصورة تفوق الوارد في المساجد، بل مع استمرار العمل في المشروعات الكبرى التي تعج بالعمال، ويختلطون بصورة أكبر من اختلاط المصلين، فإذا قيل: إنما يتم أمرهم بأخذ الحيطة والحذر، واستعمال الوسائل التي تمنع أو تخفف من احتمالات العدوى، فيقال: فليكن هذا هو سبيلك في إلزام المصلين بنفس الوسائل دون المنع، والتفريق بين المتماثلين تَحَكُّم لا يجوز، فما بالنا بالتفريط فيما هو أعلى والتشديد في الأدنى؟! والثابت أن التجمعات المذكورة يختلط فيها الناس بصورة تفوق اختلاط المصلين، ولا يتم منعها، فظهر سقوط المقصد الذي تغياه الحكم من منع المصلين من الجمع والجماعات.

ومن جهة أخرى فإن القاعدة أنه إذا تَبَيَّنَ عدم إفضاء الوسيلة إلى المقصود بطل اعتبارها، كما ذكر ذلك القرافي في ذخيرته، والمقّري في قواعده، وإذا كان المقصود هو منع التجمعات، وظهر أن التجمعات لم يتم منعها مطلقا؛ تبين لكل ذي لُب أن وسيلة المنع من الجمع والجماعات لا تحقق المقصود الذي تفتون من أجله بهذا المنع! فضلا عن سُمو الوسيلة الممنوعة وشرعيتها، وانحطاط الوسيلة المسموحة وإباحتها في أفضل التقديرات، أعني المقابلة بين الجمع والصلوات جماعة، وبين الازدحام في وسائل المواصلات، وتصوير البرامج والمسلسلات في أروقة المساجد!

وفي الحقيقة فلستُ في معرض بيان خطأ القرار وبسط الأدلة على ذلك، أعني خطأه مطلقا، وأنه كان من الواجب اتخاذ تدابير واحتياطات كافية لمنع العدوى، أو منع التجمعات مطلقا وتجريمها على كل الأصعدة، وتكون الجمع والجماعات أحد فروعها، أما ما ظهر من تحول الوسيلة إلى مقصد، حتى أنه يتم المنع من العدد الضئيل الذين يؤدون الجمعة (7) أفراد، ويتم السماح لأضعافهم في مجالات أخرى، بل ويتم وضعهم في (سيارة) واحدة، وحبسهم في محبس واحد وغرفة واحدة بسقف ونافذة صغيره للتهوية، ومع آخرين أيضا، بدعوى تجريمهم لاجتماعهم في الهواء في حديقة! وهو ما يؤكد استحالة الوسيلة لمقصد، وقصد منع الجمع والجماعات ممتنع إجماعًا، فظهر بطلان المنع من هذه الجهة..

وكل هذا يؤكد أن الكلام في التنظير في المقاصد والمآلات يختلف عن تنزيله على الواقع، لا سيما النوازل، ولا يغرنك أن يلهج الباحث بلفظ (المقاصد) ليلا ونهارا، فإن خوض غمار الفتوى في النوازل معترك لا يجيده كل أحد، فابق في درب التنظير، ودع عنك الإفتاء والتنزيل، فإنه ليس ببابك!


التعليقات