بيروقراطية البنتاجون تصدم وزير الدفاع

مذكرات القادة والمسئولين والوثائق المرفوع عنها السرية هي في الحقيقة كنوز معرفية، تشرح خلفيات الأحداث والمواقف، وترسم صورة واقعية لسياقات وحيثيات اتخاذ القرارات.

تلك التصورات الساذجة سرعان ما تنهار في حالة الاطلاع على مذكرات كبار القادة مثل مذكرات وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت جيتس المعنونة باسم (الواجب)..

وفي عالمنا العربي والإسلامي، ينظر البعض نظرة انبهار للولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها القوية مثل مؤسسة الرئاسة ووزارتي الدفاع والخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية، ويصل الانبهار مداه بتوهم أن تلك المؤسسات تعمل في انسيابية كاملة، وتماسك محكم، وفق خطط استراتيجية محكمة تُصاغ لعقود مستقبلية وربما لقرون.

تلك التصورات الساذجة سرعان ما تنهار في حالة الاطلاع على مذكرات كبار القادة مثل مذكرات وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت جيتس المعنونة باسم (الواجب) أو مذكرات وزير الخارجية ومستشارة الأمن القومي السابقة كوندليزا رايس المعنونة باسم (أسمى مراتب الشرف: ذكريات من سني حياتي في واشنطن) أو مذكرات الرئيس السابق للسي آي إيه جورج تينت المعنونة باسم (في قلب العاصفة) أو كتب كبار الصحفيين الاستقصائيين البارزين مثل بوب ودوارد، فضلا عن الكتب التي تعتمد على الوثائق المرفع عنها السرية مثل كتاب (إرث من الرماد) لتيم واينر، والذي يتناول فيه تاريخ السي آي إيه.

بيروقراطية البنتاجون تصدم روبرت جيتس

وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت جيتس الذي تولى قيادة البنتاجون خلال الفترة من 2006 إلى 2011، يروي في مذكراته التي تتجاوز 700 صفحة نماذج من العقبات البيروقراطية التي واجهته خلال توليه لمنصبه، ومن أبرزها طول الفترة بين تاريخ الموافقة على برامج مشتريات الأسلحة وتسلم تلك الأسلحة عمليا، حيث تستغرق تلك الفترة عدة سنوات وربما تصل إلى عقود حسب تعبير جيتس.

ويضرب جيتس في مذكراته أمثلة عملية على التعقيدات البيروقراطية التي واجهها قائلا (أجهزتنا لا تتحرك بالسرعة المطلوبة في زمن الحرب لتوفير الموارد المطلوبة الآن في ميدان المعركة).

فتركيبة البنتاجون حسب جيتس مصممة للتخطيط والتحضير للحرب، لكنها غير مؤهلة لخوض الحرب عمليا. فبينما تبني أقسام الجيش الأميركي موازناتها وفق احتياجاتها خلال الخمس سنوات التالية، تبقى موازنات بعض برامج التسلح طويلة الأمد عالقة بسبب التنافس بين شركات صناعة الأسلحة، وضغوط نواب الكونجرس الذين تقع مصانع شركات الأسلحة في ولاياتهم، وفي خضم ذلك تتأخر الاستجابة لطلبات برامج التسلح العاجلة التي يطلبها القادة الميدانيون.

فحسب جيتس (كانت احتياجات القادة الميدانيين وقواتهم في العراق وأفغانستان تُحال كطلبات إلى القائد الإقليمي لتلك القوات، والمتمثل هنا في قائد القيادة المركزية، والذي يراجع الطلبات ثم يرفعها في حال اعتماده لها إلى البنتاجون ثم يمر كل طلب بعد ذلك على هيئة الأركان المشتركة، والقسم المختص في الجيش، وقسم الرقابة المالية ثم يخضع الطلب لتقييم بيروقراطي متعدد يقارن بين الطلب المرفوع وخطط التسلح طويلة الأمد والميزانيات المتوافرة لها، ثم ينتهي الطلب في أغلب الأحيان باعتباره أقل أولوية من البرامج المعتمدة، ويختفي في ثقب أسود بالبنتاجون، بينما في حال الموافقة على الطلب قد يستغرق توفير التمويل سنوات عديدة، وفي بعض الحالات استغرق وصول الطلب من قائد القوات المركزية إلى وزير الدفاع لمجرد النظر فيه 6 شهور كاملة).

ويضرب جيتس في مذكراته أمثلة عملية على التعقيدات البيروقراطية التي واجهها قائلا (أجهزتنا لا تتحرك بالسرعة المطلوبة في زمن الحرب لتوفير الموارد المطلوبة الآن في ميدان المعركة). فتشكيلات الجيش الأميركي المتنوعة كانت ترى أن حروب مكافحة التمرد هي حروب طارئة، وأمر عابر لا يتطلب الحد من برامج التسلح الخاصة بخوض حروب تقليدية تخوضها جيوش أمريكية ضد جيوش معادية، فالقوات البرية الأمريكية مثلا كانت تحرص على الاستثمار في الأسلحة البرية التقليدية مثل الدبابات الثقيلة بينما سلاح الجو كان يستثمر في المعارك الجوية عالية التقنية والقصف الاستراتيجي ضد دول كبرى دون أن يهتم بالطائرات دون طيار التي تناسب حروب مكافحة التمرد واستهداف الجماعات المسلحة.

تلك الأمثلة توضح أن المؤسسات الأمريكية الكبرى مثلها مثل أي مؤسسة تعمل بها عناصر بشرية، تعاني من معوقات داخلية، وإجراءات روتينية لا تتناسب مع مستويات اهتمام ونطاق عمل تلك المؤسسات..

وفيما كانت مدرعات هامفي تتعرض للتدمير على يد عناصر المقاومة العراقية، حتى بلغت نسبة قتلى العبوات الناسفة 80% من إجمالي قتلى الجنود الأمريكيين في العراق خلال عام 2006، اكتشف جيتس أن الجيش الأميركي في عام 2000 اختبر عربة مدرعة مقاومة للعبوات تأخذ أرضيتها شكل حرف (V) مما يساهم في تشتيت الصدمة الانفجارية. وفيما طلب قائد أميركي في الأنبار 1000 عربة من هذا الطراز لقواته في فبراير 2005 فقد تسلم أولى العربات في فبراير 2007 بعد عامين من تقديمه للطلب. وعندما حقق جيتس في أسباب تأخر تسليم العربة المدرعة الجديدة للقوات الأمريكية في محافظة الأنبار العراقية، اكتشف أن أحد القيادات العليا بالجيش لم يرد إنفاق الأموال على تلك المدرعات، لأنها ستصبح عديمة الفائدة من وجهة نظره بعد انتهاء الحرب في العراق، ولن تجدي في الحروب التقليدية ضد جيوش أخرى.

وكذلك وجد جيتس أن الشركة المصنعة لتلك العربة المدرعة ستصنع 1300 مدرعة في عام 2007 بينما احتياج القوات الأمريكية كان يبلغ 6 آلاف مدرعة في نفس العام. مما دفع جيتس للضغط على الكونجرس لتمويل موازنة خاصة بشراء تلك المدرعات الخفيفة خارج الموازنة المعتمدة للتشكيلات العسكرية تجنبا للعقبات البيروقراطية التي توقع أن يضعها موظفو البنتاجون أمامه. ووصلت تكلفة تمويل المشروع إلى 40 مليار دولار تم توظيفهم لشراء 27 ألف عربة مدرعة خفيفة جديدة مما ساهم في انخفاض قتلى تفجير العبوات الناسفة من الأمريكيين بنسبة 75% عما كان عليه الوضع في مدرعات هامفي.

تلك الأمثلة توضح أن المؤسسات الأمريكية الكبرى مثلها مثل أي مؤسسة تعمل بها عناصر بشرية، تعاني من معوقات داخلية، وإجراءات روتينية لا تتناسب مع مستويات اهتمام ونطاق عمل تلك المؤسسات. لكن تظل لدى الغرب ميزة تتمثل في سرعة تعلمه من أخطائه، وتكيفه السريع مقارنة بغيره مع الأحداث الطارئة والمستجدات.

 

المصدر: موقع البوصلة

التعليقات