شريعة الربّ العظيم

يا حبيبة النفوس ، لقد طال غياب شمسك.

عودي إلينا فنحن في أمسِّ الحاجة إلى وجهك الطاهر.

فأنتِ والنيل ، والأخ والحبيب ، ومناجاة الكريم . أجمل ما في العيش.

لأجلكِ وإلا فالحياة مريرة ، وبِكِ وإلا فالنفس في حضيض.

أما آن لك أن تسودي لنسعد ، وتقودي فنرشد.

حاشاه أن يظلم

يا لخبثهم يخيفوننا من أحكام الله ليستعبدوا عقولنا ويفرضوا علينا أحكامهم وأفكارهم التي ما هي إلا ذبالة الأذهان وعفارة الوساوس والأوهام ، كذبوا علينا فقالوا : جاءت لقطع الأيدي ورجم النفوس وجلد الظهور ، وحاشاه أن يظلم ، وحاشاه أن يقسو على خلقه الذين كرَّمهم ، وحاشاه أن يجهل على الناس وقد حرَّم أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ـ كحرمة الجمعة ومكة وذي الحجة ـ ؛ لقد أعلى شأنها وأعظم خَطَرَها وصان حَرَمَها ، ثم عاقب شواذ الخلق المعتدين الظالمين ، وأدَّبهم أحسن وأحكم وأصلح ما يكون التأديب.

لقد فتح الإسلام كل باب خير وأغلق كل سبيل يوصل إلى ضرر؛ فكفل في دياره ذا الحاجة المسكين ولو من غير المسلمين، وعمل على تحريك المال وتشجيع العمل والكسب والتنمية، وحارب الربا والاحتكار والبراجماتية، وأعان على الزواج ، وضَبَطَ علاقة الرجال بالنساء، وأحل لنا الطيبات من الطعام والشراب، وأطلق الحريات في الآراء والأعمال وحماها؛ ما دامت بذاتها حريات، لم يظهر كونها ابتغاء أذِيَّة الناس، ثم أخذ على يد الظالم فأمره ونهاه ، ثم أدَّب في مقام التأديب، واستأصل حيث لا يجدي إلا الاستئصال، فاستأصل في ثلاثٍ ؛ النفس بالنفس (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ([1]) والزاني بعد إحصانٍ إذ أفسد الأنساب وخلَّف أطفال الشوارع، والتارك للدين هادم الإسلام وجماعته.

(ألا له الخلق والأمر) ([2])

إنَّ الله تبارك وتعالى هو الخالق لما عداه، والمنشيء لهم مِن العدم؛ المُرَبِّي لمخلوقاته بِنِعَمِهِ، وكلُّ شيء منها تحت مُلكِه وتصرُّفِه؛ فيَتْبَعُ ذلك وينشأ منه أنَّ له أن يتصرف فيها كما يشاء؛ تصرف المالك في ممتلكاته لا حجر عليه أن يحكم فيها بما يشاء، وعليه فالأمر والنهي من أخص خصائص الربوبية، قال الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، ([3]) وكيف لا نلتزم شريعته وما خَلقَنا إلا لنكون عبادًا له اختيارا كما نحن عبادُه اضطرارا، قال الله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)، ([4]) والسُّدَى ـ كما قال الإمام الشافعي ـ : (الذي لا يُؤمر ولا يُنهى ، وهذا يدل على أنَّه ليس لأحد ـ دون رسول اللهِ ـ أن يقول إلا بالاستدلال ، ولا يقول بما استحسن).([5])

وحال العبد أن لا يحيد عن أمر مولاه، أمَّا مَن أعرض وتجاهل الآيات، فلا ينتظر إلا معيشةً ضنكا، ثم هو يوم الحشر أعمى ؛ حيث لم يسلك باختياره في الدنيا مسلك أولي الأبصار .

لماذا يحاربون الله؟

قال ابن كثير في التفسير: (يُخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يُظهرون خلاف ما يُبطنون، يقولون قولا بألسنتهم (آمنَّا بِاللهِ وبِالرَّسُولِ وَأَطَعنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنهُم مِن بَعدِ ذَلِكَ) أي: يُخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون، ولهذا قال تعالى: (وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ، وقوله : (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيحكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنهُم مُعرِضُونَ([6]) أي: إذا طُلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه) ([7]) 

لقد بلغ من عظمة الشريعة أن لبس أعداؤها ثوبها ، لعبت بهم أهوائهم ؛ لكنِ الحقُّ ظاهرٌ والباطلُ زاهقٌ ، والمكر السيء لا يحيق إلا بأهله . يستخفون بنا فيقولون : لا نعارض شرع الله ـ بل نؤيده ـ لكن نطبقه بأسلوبنا ؛ فيفهمون من الوحي ما لا يفهمه منه عاقل ، وهم في الحقيقة لا يُطَبِّقُونَ إلا ما يُمليه عليهم ساداتهم من محتلِّي الغرب؛ الظالمين لأنفسهم وللبشرية بما نشأوا عليه من غرور العقل وحيوانية السلوك .

يا لحقارتهم يغضبون إن خولفت أهواءهم ولا يغضبون من مخالفة أمر الله ورسوله ؛ إنهم يجعلون ءارأءهم البشرية وما يعتريها من نزعات الشهوة والخطأ والكبر أعلى من حكم الله اللطيف الخبير .

وقد آن لأمتنا الْمِصرِيَّةِ أن تسئم من تلك التجارب المريرة، وتقف في صف شريعة الإسلام الواضحة الظاهرة؛ كما كانت من ذي قبل قائدةً لقافلة الخير؛ قافلة الإسلام التي جاءت لإسعاد البشرية جمعاء.

وللشرع أُمَّةٌ تَحمِيه

مات مِن أهل الشريعة في سبيلها الكثير، فكانوا وقودا تَنْضِجُ به قضيتُها، ووابلا تنبُتُ به شجرتُها، واعتلى أعداؤها العروش، ثم ما لبثوا أن زالوا أو زال عنهم الملك، فبقيت الشريعة وذهبوا حيث ذهبوا لا يعبأ بهم صغير ولا كبير.

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ؛([8]) (إن هذا التوجيه يُمَثِّلُ حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل شيء ، وكل وضع ، وكل قيمة ، وكل أحد ، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان ، الاستعلاء على تقاليد الأرض التي لم يصغها الإيمان ، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان ، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان . إن المؤمن هو  الأعلى شريعة ونظاماً . وحين يراجع المؤمن كل ما عرفته البشرية قديماً وحديثاً، ويقيسه إلى شريعته ونظامه ، فسيراه كله أشبه شيء بمحاولات الأطفال وخبط العميان ، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل . وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها ، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال). ([9])

لا نخاف على الشريعة، فالله تكفَّل بحفظها ووعد بدوام ظهورها، وإنما الطمع في أجورٍ مدخرة لمظهريها، وجنَّةٍ أعطاها الخالق ثمنا لمن باع نفسه في سبيلها.

وأخيرا ؛ نَعِدُكِ بألا نخذلك ما حيينا.

ففي سبيلك تُبذل الدماء، وتذهب النفوس رخيصة.

يا حبيبة النفوس…

الهوامش

([1])  سورة البقرة ؛ آية : 179.

([2])  سورة الأعراف ؛ آية : 54 .

([3])  سورة يوسف ؛ آية : 40 .

([4])  سورة القيامة ؛ آية : 36 .

([5])  الرسالة للشافعي بتصرف يسير ؛ ص : 114 دار التراث .

([6])  سورة النور ؛ الآيتان : 47 و48 .

([7])  تفسير القرآن العظيم 6/84 دار الحديث .

([8])  سورة آل عمران ؛ الآية : 139.

([9])  معالم في الطريق بتصرف يسير ؛ ص : 163 و 166 دار الشروق .


التعليقات