تطورات المشهد العراقي (الصراع الشيعي الشيعي)

تعكس التطورات الأخيرة بالعراق حالة من التشظي داخل الطائفة الشيعية، حيث اندلعت مظاهرات شعبية في العديد من المناطق ذات الكثافة الشيعية، تخللها مقتل 430 قتيلا على الأقل حتى نهاية نوفمبر، فضلا عن آلاف المصابين، وسط مطالبة زعيمي أكبر كتلتين بالبرلمان العراقي؛ مقتدى الصدر (كتلة سائرون)، وهادي العامري (كتلة الفتح)، لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي بالاستقالة، وتلى ذلك تقديم عبد المهدي لاستقالته بالفعل لمجلس النواب.

المشهد الشيعي في العراق

عقب الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، تم تأسيس نظام محاصصة طائفية وعرقية نص عليها الدستور العراقي الجديد، واستندت المحاصصة إلى 3 مكونات أساسية، هم: الشيعة، والسنة، والأكراد.

– دخل الشيعة أول انتخابات برلمانية في عام 2005 ضمن ائتلاف موحد. وفازوا بأغلبية مقاعد البرلمان وسط مقاطعة السنة للعملية الانتخابية، حيث بلغت نسبة المشاركة في محافظة الأنبار السنية 2% فقط. لكن سرعان ما تفتت هذا الائتلاف، بل وتفتت الأحزاب والجماعات الشيعية ذاتها، مثل حزب الدعوة، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والتيار الصدري، إلى عدة مكونات أصغر تتصارع حول عدة أمور، من أبرزها:

العلاقة مع إيران، وأميركا، والدول العربية، والتبعية لمرجعية النجف أو ولاية الفقيه، ونمط التعامل مع المكونات الأخرى للمجتمع العراقي.

الصراع بين:
  • الشيعة العرب والفرس.
  • العائدين من الخارج مع الاحتلال، والمعارضين لصدام من داخل العراق.
  • والصراع حول النفوذ في الوزارات والمحافظات العراقية.
  • وتعد معرفة الجذور التاريخية للجماعات الشيعية العراقية أمرا مهما لفهم المشهد الحالي والصراعات الدموية فيه.

في البدء حزب الدعوة

تأسس حزب الدعوة كأول حزب شيعي عراقي في عام 1957، كرد فعل على تزايد المد الشيوعي والمد القومي في العراق آنذاك. وكان من أبرز مؤسسي الحزب؛ المفكر والفيلسوف محمد باقر الصدر، في ظل دعم من المرجع الشيعي محسن الحكيم. ويعد الحزب شبيها لجماعة الإخوان المسلمين في الوسط السني.

وفي عام 1969، شن حزب البعث حملة اعتقالات وتصفية لعناصر حزب الدعوة، مما دفع الحزب للانخراط في العمل المسلح ضد النظام البعثي. ومع اندلاع ثورة الخميني، أيدها حزب الدعوة، لكنه اختلف مع مبدأ ولاية الفقيه. وقد أصدر محمد باقر الصدر في عام 1979 فتوى جريئة بتحريم الانتماء لحزب البعث.

وفي عام 1980، مع اندلاع الحرب ضد إيران، أصدر الرئيس العراقي صدام حسين قرارا بإعدام المنتمين إلى حزب الدعوة، وسبق أن أعدم فى ذات العام محمد باقر الصدر وشقيقته آمنة. ومن جانبه؛ أسس الحزب أول معسكر لتدريب عناصره باسم (معسكر الصدر) في إيران عام 1980.

انشقاق المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عن حزب الدعوة

انشق محمد باقر الحكيم، نجل المرجع الشيعي محسن الحكيم، عن حزب الدعوة خلال وجوده بإيران، ليؤسس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في عام 198٢، بدعم كامل من النظام الإيراني. وشارك إلى جوار إيران في حرب العراق عبر ذراعه العسكري المسمى فيلق بدر.

قبيل غزو العراق

تحول حزب الدعوة إلى حزب معارض بالمنفى، وساهم تأسيس المجلس الأعلى في الخصم من رصيده، فيما بقى محمد الصدر داخل العراق يقود التيار الصدري، حيث تمتع بشعبية جارفة وسط الشيعة.

وفي عام 1999 اغتيل محمد الصدر مع أحد أنجاله، مما أدى لاندلاع أحداث شغب عُرفت باسم انتفاضة البصرة، قُتل خلالها ما يزيد عن 500 شخص. وتولى نجل محمد الصدر (مقتدى) زعامة التيار الصدري.

وبذلك صار في المشهد؛ حزب الدعوة كحزب سياسي بالمنافي المختلفة في إيران وأوروبا، والمجلس الأعلى وذراعه العسكري فيلق بدر في إيران، والتيار الصدري داخل العراق بزعامة مقتدى الصدر.

ما بعد الغزو عام 2003

عقب غزو العراق عاد، المنفيون بالخارج على ظهر الدبابات الأمريكية، وسرعان ما اغتيل محمد باقر الحكيم على يد جماعة الزرقاوي في عام 2003، ليتولى شقيقه عبدالعزيز قيادة المجلس، قبل أن يتوفى في عام 2009، ليخلفه نجله عمار.

نسج المجلس الأعلى علاقات جيدة مع أميركا، وسيطر فيلق بدر التابع له على وزارة الداخلية، وأسس فرق الموت الشهيرة، التي نفذت مجازر جماعية ضد السنة لاحقا مع اندلاع الحرب الأهلية، عقب تفجير مرقد الإمام العسكري بسامراء في عام 2006.

أما مقتدى الصدر، فانخرط في مواجهات مع قوات التحالف خلال عامي 2004، و2005، عبر مليشيا أسسها في عام 2003 تدعى جيش المهدي، وذلك بعد أن أصدر الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر قرارا بإغلاق صحيفة الحوزة التابعة للصدر. ومع اشتعال المواجهات، اضطر مقتدى للهرب إلى إيران بعد تضييق الخناق عليه، وإصدار مذكرة اعتقال أمريكية بحقه. وظل مقتدى الصدر يمثل التيار الأكثر شعبية وتعبيرا عن حقوق فقراء الشيعة. وأكسبته مقاومة أسرته لنظام صدام من داخل العراق رصيدا شعبيا كبيرا. وقد انخرط جيش المهدي في مجازر دموية ضد السنة عقب تفجير مرقد العسكري في سامراء. وفي عام 2008، أصدر الصدر قرارا بتجميد نشاط جيش المهدي قائلا: إنه سيبعد الطائفيين الذي تسللوا إليه.

المالكي ومزيد من تشظي حزب الدعوة

حكم نوري المالكي كرئيس وزراء للعراق خلال الفترة من 2006 إلى 2014، وهو منتمٍ لحزب الدعوة، وقد انتهج سياسات طائفية ضد السنة، بلغت أوجها عقب الانسحاب الأميركي من العراق نهاية عام 2011 بإصدار قرار اعتقال بحق نائب رئيس الجمهورية السني طارق الهاشمي. ومداهمة منزل وزير المالية رافع العيساوي، مما أسفر عن مقتل عدد من حراسه. كما فض اعتصام أهالي مدينة الحويجة السنية بقوة مفرطة، مما أسفر عن مقتل 50 شخصا. كما واجه اعتصامات رجال العشائر في محافظة الأنبار، في عامي 2012 و2013، بقمع شديد، واصفا إياهم بالوهابيين والبعثيين، رغم أنهم كانوا يطالبون بحقوق مشروعة، من قبيل إيقاف انتهاكات الشرطة ضد مناطقهم، وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية لهم.

مع نجاح تنظيم الدولة الإسلامية في اجتياح الموصل منتصف عام 2014، أجبرت أميركا المالكي على التنحي، معتبرة أن سياساته الطائفية هي السبب في بزوغ نجم تنظيم الدولة مجددا، كما رحبت إيران بتنحي المالكي وتعيين عضو حزب الدعوة حيدر العبادي رئيسا للوزراء. وهو ما أدى لخلافات في حزب الدعوة بين مجموعة المالكي ومجموعة أخرى دعمت العبادي.

الانشقاقات الأخيرة في الأحزاب الشيعية

خلال السنوات الأخيرة، تعرض المجلس الأعلى للثورة الإسلامية لانشقاقين بارزين، تمثل الأول في انشقاق قائد فيلق، بدر هادي العامري، بالفيلق بأكمله عام 2012، وتغيير اسمه إلى منظمة بدر، وقد تحالف العامري مع نوري المالكي. وعينه المالكي وزيرا للنقل.

أما الانشقاق الثاني فحدث في عام 2017، وقاده رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية عمار الحكيم، حيث أسس تيار الحكمة.

ومع اقتراب عناصر تنظيم الدولة من بغداد، وإصدار المرجع الشيعي السيستاني فتوى بوجوب التطوع للتصدي لتنظيم الدولة، تأسس الحشد الشعبي في عام 2014، وضم قرابة 62 فصيلا شيعيا، من أبرزهم:

عصائب أهل الحق التابعة لقيس الخزعلي، وهو منشق عن التيار الصدري منذ عام 2005، ونفذ تنظيمه عمليات قوية ضد الأمريكان، شملت خطف 4 جنود من داخل مبنى محافظة كربلاء وتصفيتهم لاحقا، مما دفع أميركا للقبض على الخزعلي قبل أن تفرج عنه في عام 2010 ضمن عملية تبادل أسرى مقابل متعاقد أميركي مختطف.

كتائب حزب الله التابعة لأبو مهدي المهندس (جعفر إبراهيم)، وهو منشق عن حزب الدعوة، ثم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وفيلق بدر، الذي ترأسه لسنوات قبل أن يخلفه هادي العامري، وهو مصنف أمريكيا في قائمة الإرهاب، ومتهم في محاولة اغتيال أمير الكويت عام 1984، وقد تولى المهندس منصب نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي، ثم رئيس أركان الحشد مع إعادة هيكلته في سبتمبر 2019 بعد إلغاء منصب نائب الرئيس من النظام الإداري للحشد.

سرايا الخراساني بقيادة علي الياسري، وهو فصيل منشق عن المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وتأسس عام 1995، ويتبع ولاية الفقيه بإيران.

كما توجد خلافات بين المجموعات التابعة لإيران، وعلى رأسها بين المهندس والخزعلي من جهة، ومقتدى الصدر من جهة أخرى، فبينما يرفض الصدر ما يقوم به بشار الأسد في سوريا، ويستقل بقراره عن طهران، يرسل الخزعلي والمهندس عناصرهما للقتال في سوريا، ويعلنان أنهما تابعان للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية.

كما أسس مقتدى الصدر سرايا السلام. فيما أسست المرجعية بالنجف عدة مجموعات، مثل لواء علي الأكبر لحماية العتبات والمراقد الشيعية. وتم تعيين مستشار الأمن الوطني العراقي فالح الفياض رئيسا للحشد، فيما عُين أبو مهدي المهندس نائبا لرئيس الحشد. وقد أصدر حيدر العبادي، رئيس الوزراء السابق، قرارا باعتبار الحشد الشعبي تابعا للقوات المسلحة العراقية، لكن باعتباره كيانا قائما بذاته له هيكلته الخاصة، وتموله الدولة العراقية. وقد بلغت ميزانيته المعلنة مليار دولار سنويا.

ومن خلال إشراف المهندس على توزيع الموارد والمرتبات على مجموعات الحشد، صار يمنح الأموال بكثافة للمجموعات التابعة لإيران، ويحجب المساعدات عن المجموعات التابعة للصدر أو للمرجعية في النجف.

برزت للعلن خلافات بين الفياض رئيس الحشد، ونائبه المهندس، وصلت إلى مستوى إصدار بيانات رسمية ضد بعضهما البعض في عام 2019، على خلفية توعد المهندس باستهداف التواجد الأميركي في العراق، عقب الهجمات الجوية التي شنتها إسرائيل على مقرات الحشد في العراق.

كما توجد خلافات بين المجموعات التابعة لإيران، وعلى رأسها بين المهندس والخزعلي من جهة، ومقتدى الصدر من جهة أخرى، فبينما يرفض الصدر ما يقوم به بشار الأسد في سوريا، ويستقل بقراره عن طهران، يرسل الخزعلي والمهندس عناصرهما للقتال في سوريا، ويعلنان أنهما تابعان للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية.

وسبق في الانتخابات النيابية في عام 2018 أن فاز بالأغلبية تحالف (سائرون)، الذي شكله الصدر مع عدد من القوى المدنية والشيوعية (الحزب الشيوعي العراقي)، دون أن يتمكن التحالف من تحقيق أغلبية تسمح له بتشكيل الحكومة، فاتفق الصدر مع تحالف (الفتح)، الذي يقوده هادي العامري، والذي يتشكل من فصائل الحشد الشعبي، على اختيار شخص مستقل كرئيس للوزراء. فاختاروا عادل عبد المهدي، وهو قيادي سابق بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، كان قد استقال من المجلس في عام 2017، وليست له كتلة نيابية يستند إليها، وسبق له أن عمل وزيرا للتخطيط.

التظاهرات الأخيرة

تمثل التظاهرات الأخيرة في العراق ذروة التظاهرات التي تندلع بشكل متقطع منذ عام 2014 اعتراضا على تردي الخدمات الحكومية، وفصل المتعاقدين مع الوزارات، وبالأخص المتعاقدين مع وزارتي الدفاع والداخلية (تجاوز عددهم 108 ألف مفصول)، وانقطاع الكهرباء بشكل شبه دائم خلال فصول الصيف، والمحاباة والمحسوبية، وشبكات الفساد التي تديرها الجماعات والأحزاب الشيعية داخل الحكومة، والتي تصل إلى حد دفع رواتب عشرات آلاف الموظفين الموجودين على الورق فقط.

ويبدو أن حالة الاحتقان ضد إيران في الشارع الشيعي العراقي بلغت أوجها، وأن الجماعات والتكتلات الشيعية مقبلة على صدام بيني كبير ما لم تتدخل إيران للتوسط بين الأطراف المتنازعة، وامتصاص الغضب المتصاعد ضد سياساتها.

وقد ساهم في تأجج الأحداث الأخيرة؛ نقل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي للفريق عبدالوهاب الساعدي، نائب رئيس جهاز مكافحة الإرهاب من منصبه. فالساعدي بطل في نظر الشارع الشيعي، نظرا لدوره البارز في محاربة تنظيم الدولة، كما أنه مقرب من أميركا، التي أسست ودربت جهاز مكافحة الإرهاب. وقد خرج الساعدي في التلفاز ليقول: إنه أبعد من منصبه بعد اكتشافه وجود 200 شخص في الجهاز على الورق فقط يتقاضون مرتبات.

وقد شهدت المظاهرات إحراق صور علي خامنئي، وإحراق مقرات أبرز تنظيمات الحشد الشعبي في جنوب العراق، فيما تصدت عناصر المجموعات التابعة لإيران للمتظاهرين. وحدثت في بعض الأماكن اشتباكات بين سرايا السلام التابعة للصدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، التابعة لإيران.

وفي نهاية أكتوبر سحب الصدر والعامري دعمهما لعادل عبد المهدي، والذي تقدم برزمة إصلاحات اقتصادية ضد الفساد، لا يثق الشارع الشيعي في قدرته على تنفيذها، والوقوف في وجه مليشيات الحشد. وبنهاية نوفمبر قدم عبد المهدي استقالته لمجلس النواب العراقي.

ويبدو أن حالة الاحتقان ضد إيران في الشارع الشيعي العراقي بلغت أوجها، وأن الجماعات والتكتلات الشيعية مقبلة على صدام بيني كبير ما لم تتدخل إيران للتوسط بين الأطراف المتنازعة، وامتصاص الغضب المتصاعد ضد سياساتها.

وفي ظل المعطيات الحالية، يظهر مقتدى الصدر باعتباره الزعيم الأقل طائفية، والمعبر بشكل واسع عن الشارع الشيعي، ولا يتبع مذهب الولي الفقيه، والأكثر انفتاحا على المحيط العربي للعراق. مما يجعله الرابح الأكبر من الغضب الشعبي الموجه بالأصالة ضد النفوذ الإيراني وفساد الأحزاب الشيعية وثيقة الصلة بإيران.

المصادر
ريناد منصور، المأزق السني في العراق، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، ٢٠١٦.
رانج علاء الدين، احتواء المليشيات الشيعية: المعركة من أجل الاستقرار في العراق، مركز بروكنجز الدوحة، 2017.
فالح عبد الجبار وريناد منصور، الحشد الشعبي ومستقبل العراق، مركز كارنيجي للشرق الأوسط، ٢٠١٧.
احتجاجات العراق: بين مطالب الشارع وعنف السلطة، وحدة الدراسات السياسية، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2019.
مستقبل الحشد الشعبي في العراق: بين سيادة الدولة وصراع المحاور، وحدة الدراسات السياسية، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، 2019.
الموقع الإلكتروني لمديرية الإعلام بالحشد الشعبي: http://al-hashed.net/
مصدر المقال: منتدى العاصمة

التعليقات