النظام الدولي بعيد الحرب العالمية الأولى

بنهاية الحرب تغيرت عدة مكونات للنظام الدولي دام وجود بعضها عدة قرون، فزالت عن مقاعد الحكم أسر عتيدة مثل آل هابسبرج حكام الإمبراطورية النمساوية المجرية، وآل رومانوف حكام روسيا القيصرية، وآل عثمان حكام الدولة العثمانية، وآل هوهنزولرن حكام الإمبراطورية الألمانية.

كما تلاشت الدولة العثمانية تماما مع إعلان مصطفى أتاتورك إلغاء منصب الخلافة في عام 1924، وتأسيسه لدولة تركية على الطراز القومي العلماني.

وكذلك تفككت الإمبراطورية النمساوية المجرية إلى عدة دول من بينها تشكوسلوفاكيا التي ضمن مواطنين من قوميات مختلفة تشيكية وسلافية وألمانية، ومملكة (الصرب والكروات والسلوفين، يوغسلافيا لاحقا)، فضلا عن النمسا، والمجر. وواكب ذلك تصاعد النزعات القومية لدى شعوب البلقان. كما تلاشت الدولة العثمانية تماما مع إعلان مصطفى أتاتورك إلغاء منصب الخلافة في عام 1924، وتأسيسه لدولة تركية على الطراز القومي العلماني. بينما جرى تقاسم النفوذ بين بريطانيا وفرنسا على الدول العربية التي انسلخت من الدولة العثمانية مثل العراق والشام ومصر وفلسطين. فنجح عبدالعزيز بن سعود في بسط نفوذه على الجزيرة العربية برعاية بريطانية، ومن ثم أعلن تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932. كما اعترفت بريطانيا بدولة شرق الأردن عام 1923، وظلت تشرف على سياستها لعدة عقود، حيث مثل الأردن حاجزا جغرافيا بين الجزيرة العربية وسوريا والعراق من جانب وبين فلسطين من جانب آخر مما ساعد بريطانيا في تسريع معدل توطين اليهود في فلسطين تنفيذا لوعد بلفور الصادر عام 1917.

أما ألمانيا فقد قبلت بالاستسلام العقابي الذي تضمن فرض شروط استسلام قاسية شملت التنازل عن عدة مناطق من أراضيها لصالح فرنسا والدنمارك وليتوانيا وغيرها من الدول الأوروبية، بالتوازي مع تسليم أسطولها البحري العسكري والتجاري وسلاحها الجوي إلى خصومها. ومن ثم صارت فرنسا هي الدولة الأكثر قوة في أوروبا.

وسعت روسيا الشيوعية لتعويض ذلك عبر الإعلان عن تأسيس الاتحاد السوفيتي الذي ضم خمس عشرة دولة. وتبنى النظام الشيوعي الجديد فكرة تصدير الشيوعية للخارج…

وفيما انتهجت فرنسا سياسة متشددة حرصت عبرها على تجريد ألمانيا من مقومات القوة، وإنهاكها بطلبات التعويض الباهظة، حتى وصل الحال إلى احتلال مناطق ألمانية مثل إقليم الرور عام 1923 إثر تأخر ألمانيا عن سداد التعويضات. وبالمقابل حرصت بريطانيا على تعزيز الاستثمارات الاقتصادية في ألمانيا، ودعم نهوض الأخيرة كي توازن القوة الفرنسية. وقد أسهمت هزيمة ألمانيا في اضعاف التحالف البريطاني الفرنسي نظرا لخشية بريطانيا من نمو الطموحات الفرنسية التوسعية القارية مجددا.

أما روسيا التي شهدت ثورة شيوعية عام 1917 نجحت في: الإطاحة بالحكم القيصري، ثم الانتصار في الحرب الأهلية الروسية، والتصدي لمحاولات التدخل الخارجي الأوروبية. فقد فقدت السيطرة على عدة مناطق كانت تمثل جزءا من الأراضي الروسية مثل فنلندا وإستونيا وليتوانيا. وسعت روسيا الشيوعية لتعويض ذلك عبر الإعلان عن تأسيس الاتحاد السوفيتي الذي ضم خمس عشرة دولة. وتبنى النظام الشيوعي الجديد فكرة تصدير الشيوعية للخارج، وتأسيس نظم شيوعية في أوروبا على أنقاض النظم الرأسمالية. بينما حرصت الدول الغربية على تشكيل حزام من الدول المحيطة بالاتحاد السوفيتي مثل بولندا ورومانيا لمنع انتشار النفوذ الشيوعي إلى باقي أرجاء القارة الأوروبية.

مع دخول أميركا كلاعب فاعل في الساحة العالمية والأوروبية، حرص الرئيس ولسن على تغيير الأعراف التقليدية للنظام الدولي القائم آنذاك، والتي كانت تقوم على الاتفاقيات السرية بين الدول الكبرى…

أما في شرق آسيا فقد حرصت اليابان على الاستيلاء على المستعمرات الألمانية وبالأخص في شمال الصين والمحيط الهادئ، وكذلك شاركت اليابان في حملة الحلفاء على سيبيريا عام 1920، واحتلت ميناء فلاديفوستك الروسي. وقد أثار توسع النفوذ الياباني في تلك المنطقة الحيوية من العالم مخاوف أميركا، ومن ثم تشكلت نواة صراع ياباني أميركي في المحيط الهادئ سرعان ما انفجر أثناء الحرب العالمية الثانية.

تأسيس عصبة الأمم وانهيارها

مع دخول أميركا كلاعب فاعل في الساحة العالمية والأوروبية، حرص الرئيس ولسن على تغيير الأعراف التقليدية للنظام الدولي القائم آنذاك، والتي كانت تقوم على الاتفاقيات السرية بين الدول الكبرى، والتحالفات الموجهة نحو تهديدات محددة مثل التحالفات الأوروبية المناهضة لفرنسا النابليونية في القرن السابق. أعلن ويلسون مبادئه الأربعة عشر التي تضمنت التأكيد على استناد العلاقات الدولية إلى مواثيق سلام علنية، وتخفيض التسلح إلى الحد الذي يكفل الأمن الداخلي، وتأمين حرية الملاحة في البحار خارج المياه الإقليمية في أوقات السلم والحرب، وحق الشعوب في تقرير مصيرها.

ومن ثم سعى ويلسون لبناء منظومة أمن جماعي تقوم على أسس تتفق مع مبادئه المعلنة من قبيل رفض العدوان العسكري بغض النظر عن أهدافه أو أسبابه، والتسوية السلمية للنزاعات، والتحكيم الدولي بين المتخاصمين. ووفق تعبيرات كيسنجر (كان النظام الدولي يُعاد تأسيسه على قاعدة اتفاقات سلام معلنة تم التوصل لها على الملأ… في ظل منظومة أمن جماعي لا تحدد التزامات معينة تجاه دولة أو أخرى إنما تتضمن نوعا من التحرك المشترك لدى تعرض قواعد النظام الدولي للانتهاك).

عقدت العصبة أولى اجتماعاتها في عام 1920 بجنيف بحضور 42 دولة عضو، وتشكلت العصبة من جمعية عامة تتألف من ممثلين عن كافة الدول الأعضاء، ومجلس يتكون من 4 أعضاء دائمين هم فرنسا وبريطانيا وإيطاليا واليابان، وأعضاء آخرين غير دائمين. في حين لم تُقبل عضوية الاتحاد السوفيتي بها سوى عام 1934. وكانت قرارات العصبة تتخذ بالإجماع.

وتمخض عن العصبة تأسيس عدد من المؤسسات الدولية مثل محكمة العدل الدولية عام 1922. كما نشطت العصبة في مجال مساعدة اللاجئين وتحسين ظروف العمل والصحة ومكافحة تهريب المخدرات.

في العقد التالي لانتهاء الحرب العالمية الأولى أصيب الاقتصاد العالمي بأزمة كساد قوية، واكبها تزايد نسب البطالة، وتنامي الاحتجاجات العمالية، وتصاعد الشعور القومي، مما ساهم في بروز أفكار يمينية فاشية…

نجحت العصبة في تسوية المنازعات بين الدول الصغيرة مثل النزاع بين بلغاريا واليونان عام 1925 لكنها عجزت عن تسوية النزاعات التي اشتركت فيها دول كبرى. وتلقت العصبة عدة ضربات تمثلت أولاها في رفض الكونجرس الأميركي مشاركة أميركا في العصبة لميله إلى اعتماد سياسة تؤكد على حرية الولايات المتحدة في العمل بما يتفق ومصالحها دون التقيد مسبقا بالتزامات سياسية محددة. ثم توالى انسحاب اليابان وإيطاليا من العصبة إثر رفض العصبة غزو اليابان للصين، وإيطاليا للحبشة، كما انسحبت ألمانيا من العصبة عام 1933 إثر تولي هتلر للسلطة. وكذلك طردت العصبة الاتحاد السوفيتي من عضويتها عام 1939 إثر غزوه لفنلندا، وفي النهاية أثبتت العصبة عدم قدرتها على التصدي لتجاوزات الدول الكبرى، فضلا عن عدم تحقيقها لمصالح القوى الكبرى الصاعدة مثل أميركا والاتحاد السوفيتي، فآل الأمر إلى حلها عام 1946، وتحويل ممتلكاتها إلى الأمم المتحدة، كما أصبح مقر العصبة في جنيف هو المقر الأوروبي للأمم المتحدة.

في الطريق للحرب العالمية الثانية

في العقد التالي لانتهاء الحرب العالمية الأولى أصيب الاقتصاد العالمي بأزمة كساد قوية، واكبها تزايد نسب البطالة، وتنامي الاحتجاجات العمالية، وتصاعد الشعور القومي، مما ساهم في بروز أفكار يمينية فاشية في إيطاليا التي رأت أنها لم تحصل على غنيمتها المستحقة مقابل دورها في الحرب العالمية الأولى. كما برز الحزب النازي الألماني الذي عمل على استثارة المشاعر القومية الألمانية للتخلص من الاتفاقيات المذلة التي فرضت على ألمانيا عقب هزيمتها في الحرب، كما رغبت اليابان في فرض هيمنتها على كامل المحيط الهادئ وتقزيم النفوذ الأميركي به. وتواطئت تلك العوامل على التمهيد لاندلاع الحرب العالمية الثانية.

المصادر:
1- (تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين) محمد السيد سليم- ط1. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، 2002.
2- (النظام العالمي- تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) هنري كيسنجر – دار الكتاب العربي، 2015.
مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات