اعتبار فهم وقبول الأمة للتغيير

فالحركة التغييرية نواتها نخبة رائدة، وقوتها أمة داعمة، وأي نخبة تنعزل عن أمتها فإنها تفقد قدرتها على إحداث أي تغيير حقيقي ومستمر، بل تتحول إلى مجموعة من الحالمين، البعيدين بدرجات عن واقع الحياة، والعاجزين عن تغييره. خاصة ونحن نتكلم عن تغييرات كبيرة وعامة، فإن الدوائر التي يتداخل تأثير الكثيرين فيها، لا يمكن تجاوزهم في حسابات التغيير، مع شدة تأثير ما يمكن أن يترتب على مواقفهم المختلفة تجاه التغيير المنشود.

هل معنى هذا أننا نوقف تحقيق طاعة الله في الأرض على قبول ناس كثروا أو قلوا؟.. بالقطع لا، لكن تصور المسألة على هذا النحو يشتمل على كثير من المغالطة….

إنه لا يكفي أن يكون على وجوب هذا التغيير أدلة شرعية، ولا يكفي أنه تكون قناعة الفئة الرائدة المحركة للتغيير به كاملة، ولا يكفي أن يكون عند أفراد الحركة – مهما كثروا – استعداد للتضحية حتى النهاية وبكل غالٍ، إن كل ما سبق على أهميته غير كافٍ. بل لا بد أن نعتبر شيئا آخر، هو من القدرة الشرعية الهامة في التغييرات الكبيرة، والتي بها نستوفي مشروعية الممارسة التغييرية، إنه اعتبار فهم وقبول الأمة، باعتبار أن الأمة هي الحاضن والحامل لهذا التغيير.

هل معنى هذا أننا نوقف تحقيق طاعة الله في الأرض على قبول ناس كثروا أو قلوا؟.. بالقطع لا، لكن تصور المسألة على هذا النحو يشتمل على كثير من المغالطة، فأصل الشرعية لا يكون إلا بدليل الشرع، أما استيفاء شرعية الممارسة فتتعلق بأمرين يتعلقان بالناس، وهما: القدرة، والمصلحة. بل إننا قد سبق وقررنا كيف يؤثر المآل الواقعي على حكم التغيير، بما قد ينقله من الوجوب إلى التحريم، أو إلى غيره مما هو أقرب منه. لهذا دل الشرع على اعتبار فهم وقبول الأمة في الممارسات الكبيرة، التي تؤثر على مجموع الأمة، وتتأثر أيضا بهذا المجموع.

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو بين الناس عموما، وبين المسلمين خصوصا، يتحمل من ابن سلول في المدينة أذى كثيرا، وابن سلول على كفره أولا، ثم وهو على نفاقه مع إظهار الإسلام ثانيا، حتى يصل بنا التاريخ إلى حادثة الإفك، وقد بلغ الإسلام من القوة في المدينة والأرض مبلغا كبيرا، وقد بلغ الإسلام من الرسوخ في قلوب المسلمين مبلغا كبيرا، وعندها يريد النبي – صلى الله عليه وسلم – بحق أن يعاقب ابن سلول، ويعرض ذلك على الأنصار من الأوس والخزرج يطلب منهم عذره في هذه المعاقبة، التي كان ابن سلول مستحقا لها من زمن طويل، ثم زاد استحقاقه لها بجرمه الجديد الذي ينال فيه من عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله، الذي يعيش بين الصحابة، أعظم هذه الأمة إيمانا. فماذا كان؟

لقد تعصب الخزرج – قوم ابن سلول – الذين يعلمون نفاقه، خلف زعيمهم سعد بن عبادة، لا عن نفاق من سعد ولا من الخزرج، ولكن عصبية بغير حق، من جنس العصيان الذي يرد على الناس، ولو مع إيمان وصلاح، فتثاور الحيان: الأوس والخزرج، وهم أنصار الله ورسوله ودينه، فنزل النبي غ وسكنهم .. ثم انصرف، نعم .. انصرف وترك ابن سلول وعقابه، لأن مجتمع المدينة الذي نصر الإسلام في الأرض، لم يكن مستعدا لتقبل هذا العقاب، بل كان الإصرار على تنفيذ العقاب سيؤدي إلى تنازع واقتتال داخلي، لا يربح من ورائه إلا أعداء الإسلام. بأبي هو وأمي غ كم تحمل في معالجة أمر الناس، يرجو نجاتهم وصلاحهم، ويحتمل زلاتهم ونقائصهم، حتى كان بحق أكمل الناس وأعظمهم إحسانا إليهم (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ)([1]).

لكن تجاوز فهم الأمة وقبولها بالكلية له آثاره خطيرة، لو قلنا – كما يزعم البعض -: إن ذلك لا يهم، لا الآن ولا غدا. فهذا سيكون خطأ فادحا، لأن معنى ذلك أننا سنقاتل وحدنا، منفردين في المعركة…

فكيف يسوغ لمن لا يقارب مقامه في الناس مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزعم عدم احتياجه إلى مراعاة فهم الناس وقبولهم؟ وأنه يكفيه ما ظهر له من أدلة الشرع الداعية لممارسته أيا ما كانت! وأن الناس لا وزن لهم عندما ننفذ أمر رب الناس! في خلط عجيب بين الصواب والخطأ، وفي تنزيل عجيب للحق على غير مناطه، وفي وهم عجيب يتجاوز سنن الله في البشر.. تلك السنن التي كان يراعيها أعلم الخلق بالله وأخشاهم له وأقربهم منه وأحبهم إلى عباده المؤمنين، رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

لكن ذلك لا يعني أن يعطل كل أمر شرعي حتى يكتمل تأهل الأمة له فهما وقبولا، بل كل أمر بحسبه وبحسب محتفاته. وربما كان من تأهيل الأمة لفهم وقبول بعض الأعمال، أن يروا نماذج من ممارساتها في الواقع، ثم لا تزال تزداد مع ازدياد قبولها في الأمة، في تناسب يرفع الأمة من حال إلى حال، ولا يحملها ما لا تحتمل في المراحل المختلفة، حتى يتم المراد بإذن الله. فمن الممكن إطلاق شرارة المعركة؟.. يمكن ذلك، على أن نضع في حسابنا أن الناس سيفهمون ويقبلون، ونراعي فهمهم وقبولهم في المراحل التالية.

لكن تجاوز فهم الأمة وقبولها بالكلية له آثاره خطيرة، لو قلنا – كما يزعم البعض -: إن ذلك لا يهم، لا الآن ولا غدا. فهذا سيكون خطأ فادحا، لأن معنى ذلك أننا سنقاتل وحدنا، منفردين في المعركة، مع تفاوت في كل موازين القوى على الأرض. ليس من الضروري دائما أن يكون ذلك الذي لم يفهمه الأكثرون من الأمة، ليست عليه أدلة شرعية. لكننا نتكلم عن إمكانية واقعية لابد من اعتبارها، وإلا تحملنا المعركة وحدنا. وفي النهاية.. حتى متى سنتحمل؟.. وما الذي يمكن أن نصل إليه كنتيجة لبذلنا؟

إن هذا يفسر لنا لماذا في حالات الجهاد – مثلا – والتي حصلت داخل بلدان المسلمين، وجدنا أنه مع كثرة التضحيات، بقيت النتيجة المرجوة بعيدة. ذلك أن الأمة كأمة لم يكن عندها الفهم والقبول الكامل لذلك، فلم تحمل تلك المحاولات. مع أن نفس الأمة – مثلا – حملت أكثر القضايا الأكثر وضوحا، كأن يكون الجهاد ضد عدو كافر أجنبي واضح.

ففى النهاية .. لا تكن عونا على نفسك، ولا على دعوتك، ولا على رسالتك. فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى أن احتمال ابن سلول، أقل ضررا من قتله الذي سيؤدي للصد عن سبيل الله، بالنسبة لأكثر الناس (لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)([2]). وعليه فلا بأس أن تؤجل بعض الأعمال التي يترجح أن تؤدي إلى فجوة واسعة بين الفئة الحاملة للرسالة وبين الفئة المستهدفة بالدعوة إلى الرسالة. كما أن النبي غ قام بتأجيل ما يستحقه ابن سلول من العقوبة، لأجل ذلك. فاعتبر هذا المعنى.. الفهم والقبول.

وإذا كان كلامنا السابق عمن هم خارج الجماعة المسلمة، وهدفنا أن ينحازوا لها.. فهل يراعى فهم وقبول من انحاز إلى الإسلام أيضا؟.. نعم، وقد بدأنا كلامنا بالاستدلال على ذلك، فإنه ليس كل من انضم إلى المسلمين، صار على المستوى المطلوب فهما وقبولا، وهذه حقيقة متكررة.

فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم؛ فلماذا لم يفعل ذلك؟ قال: (لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ…) ([3]) فما هي المشكلة؟.. المشكلة أنهم هم الذين بنوا هذه الكعبة، وهي معظمة، فلو أن النبي غ بعدما دخل مكة وفتحها.. وهم أنفسهم أسلموا وصاروا معه، لكن إسلامهم مازال ضعيفا..  فلو هدم النبي صلى الله عليه وسلم الآن الكعبة.. فإن الرسالة التي ستصلهم أنه صلى الله عليه وسلم يزيل عنهم الشرف، ليستأثر به وحده، وهذا يبعدهم عن النبي والإسلام. فحتى المسلم لا تقل: إنه قد صار مسلما وانتهينا معه .. لا.

سيبقى دائما أكبر نجاح لصاحب الدعوة، ألا تكون دعوته حكرا عليه، إنما أن يحملها الناس معه، أن تنغرس في أرض أمته، فتستعصي على الإبادة، وتظل تنبت القادة والأبطال الذين يضحون للرسالة، ويغيرون الواقع…

قد تقول: لا بد ولا بد.. لكننا قررنا مرارا أنك لا يجوز أن تتعامل مع ما ينبغي أن يكون، ولكن تعامل مع ما هو كائن. إن البعض مشكلتهم في مثل هذا التفكير الرياضي، الذي يتعامل مع ما ينبغي. إنهم شخصيات منطقية جدا، وعاقلة جدا، وذكية جدا .. لكن الواقع ليس للأذكياء فقط !! وهذا فهم خاطئ للحياة والأحياء.. فإن أكثر الناس لا يسلمون من تناقض ما، حتى إنه يوجد في بعض كتب الإدارة والتعامل مع الناس – وهو من أظرف ما يمكن أن تقرأ – قولهم: إن التناقض في الناس شيء طبيعي جدا. فلا تتعامل معه على أنه شيء غريب !.. وربنا I يقول: (وَلَوۡ كَانَ مِنۡ عِندِ غَيۡرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخۡتِلَٰفٗا كَثِيرٗا)([4]).. فما معنى (ٱخۡتِلَٰفٗا)؟.. إن معناها: تناقض. فآية الكمال الرباني عدم التناقض، وآية النقص البشري أن يوجد تناقض. فهناك نسبة من التناقض عند الناس، ولا بد، تقل أو تكثر. فلا يصلح أن نعامل الناس بعقلية رياضية جامدة، وإلا كان الخطأ من جهتنا.

لا تقل: هو مسلم فلا بد أن يفعل كذا.. فهذا الذي لا بد منه في رأسك، قد لا يكون في الواقع كذلك، لا يحدث. فلا تقس حساباتك على ما لا بد منه، بل على ما يمكن، وعلى ما يحصل، من واقع هؤلاء الناس. فهناك من أسلموا لكن مازالت عندهم سلبيات ومشاكل، مازال عندهم ضعف، فهم يحتاجون إلى من يحتضنهم ويتألفهم، وقد لا ينتفعون بمن يصيبهم بصدمة، بل يمكن أن ترجعهم تلك الصدمة خطوة أو أكثر إلى الوراء.

ففي الجملة، هذه قاعدة عامة: الأصل أن تعتبر فهم الأمة وقبولها، فكن حريصا عليهما إذا كنت حريصا على إحراز تغييرات كبيرة ومستقرة وهامة في الأمة. سيبقى دائما أكبر نجاح لصاحب الدعوة، ألا تكون دعوته حكرا عليه، إنما أن يحملها الناس معه، أن تنغرس في أرض أمته، فتستعصي على الإبادة، وتظل تنبت القادة والأبطال الذين يضحون للرسالة، ويغيرون الواقع من خلال معطيات جديدة، ولو من خلال جيل جديد يرث جيلا قبله، حتى يتحقق التغيير المستهدف بعون الله.

 

ملاحظة: المقال منقول من كتاب ملف التغيير للدكتور أشرف عبدالمنعم

———————–

[1]– [الأنبياء – 107].
[2]– صحيح البخاري (4905) عن جابر بن عبد الله س.
[3]– صحيح البخاري (1586) ومسلم (1333) عن عائشة ك.
[4]– [النساء – 82].

التعليقات