عدم التغيير إعانة لأهل الباطل

لأن ترك التغيير معصية تستدعي العقوبة، وتتنوع هذه العقوبات ما بين عقوبات شرعية وعقوبات كونية. فإن ربنا سبحانه تعالى لما أخبرنا عن عدم إهلاكه للقرى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ) قال بعدها: (وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ)[1].. فالصلاح وحده لا يكفي، ولا يمنع الهلاك، بل لا بد من الإصلاح.

وعندنا في حديث السفينة، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا)[2]).. فعدم تغيير الباطل هو مساعدة لأهل الباطل، لأنه (وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ)[3] سيظهر الفساد.. والفساد سيستدعي العقوبات.. الشرعية منها والكونية.

إنك كإنسان مؤمن، فإن أهم وأغلى وأحب شيء عندك هو.. ربك سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينك الذي رضيه الله لك – الإسلام -.. فعلى الأقل.. تغضب لهم…

حتى التغيير بالقلب له لوازم، إن لم يقدر على أكثر منه، كما قال ربنا ﻷ: (وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعۡتُمۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكۡفَرُ بِهَا وَيُسۡتَهۡزَأُ بِهَا فَلَا تَقۡعُدُواْ مَعَهُمۡ)[4].. مع أن الواجب عليك أكثر من مفارقتهم، لكن لو لم تقدر على أكثر من ذلك، فأقل شيء أن تفارق، كما قال العلماء: إذا لم تزل المنكر، فزل أنت عنه.. فإذا لم تقدر على أن تغير أي شيء فيه، فنفس وجودك معه جريمة، لأن من غضبك وإنكارك القلبي أن تفارقه. فإن لم تفعل، فإن ربنا قال: (إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ جَامِعُ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ وَٱلۡكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)[5].. الكافر هنا من قال الكفر.. والمنافق هنا من قيل الكفر أمامه، فلم يقدر على الرد، ولم يفارق، بل سمحت نفسه به.. مع أنه لو كان قد شتمه أحد، لكان قد انفعل وغادر. فكيف بمن يعتدي على دين ربنا أمامك، ثم أنت لا تعتبر أن القضية توجب حتى.. انصرافك!!

إنك كإنسان مؤمن، فإن أهم وأغلى وأحب شيء عندك هو.. ربك سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينك الذي رضيه الله لك – الإسلام -.. فعلى الأقل.. تغضب لهم، وإذا غضبت ولم تقدر على أكثر من المفارقة، فهي واجبة عليك، فإذا تركت هذا التغيير البسيط جدا، فهناك عقوبة شرعية مغلظة: (إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثۡلُهُمۡۗ)[6].. وهذه عقوبة قاسية جدا، كحكم تم تقريره على المستوى الشرعي.

أما على المستوى الكوني، فأنتم تعرفون قصة القرية التي كانت حاضرة البحر: (إِذۡ يَعۡدُونَ فِي ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِيهِمۡ حِيتَانُهُمۡ يَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعٗا وَيَوۡمَ لَا يَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِيهِمۡۚ كَذَٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ)[7].. فإن أصحاب القرية انقسموا إلى ثلاثة أصناف:

  1. قسم ارتكب الحرام.
  2. وقسم أنكر الحرام.
  3. وقسم لم يرتكب الحرام، ولم ينكره.

وما دام عندنا هنا ثلاثة أنواع.. فإننا ننتظر أن يكون عندنا ثلاثة أحكام تنزل عليهم. لكننا نجد أن الآيات فيها نهايتان: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦٓ أَنجَيۡنَا ٱلَّذِينَ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوٓءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابِۢ بَ‍ِٔيسِۢ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ)[8].. فالمتفق عليه حكم طائفتين:

  1. الذين ارتكبوا الحرام، وهؤلاء قد نالهم العذاب.
  2. الذين أنكروا عليهم، وهؤلاء قد نجوا.
  3. فما حكم من لم يرتكب الحرام، ولم ينكر ارتكابه أيضا؟؟..

إن العلماء قد اختلفوا في هذا الصنف، وعندنا ثلاثة أقوال لأهل العلم في المسألة:

القول الأول: نجوا مع من نجا من الطائعين، لأن ربنا خص العقوبة بالظالمين، وهؤلاء لم يظلموا، لأنهم لم يرتكبوا الحرام.

القول الثاني: وهذا عليه الأكثر، أنهم هلكوا مع من هلك، لأن ربنا قصر النجاة على من كان ينهى عن السوء، وهم لم يكونوا من أهل النهي. فهل هم ظالمون؟؟.. قالوا: نعم.. لأن الظلم نوعان، فواحد ظلم بفعل الحرام، وآخر ظلم بإعانة أهل الباطل، حين تركهم يفعلون الحرام. فهل يستوون في العذاب؟؟.. لا، لأن كل إنسان يعذب على قدر مشاركته في الحرام، ودرجته في الظلم.. لكنهم في النهاية ظالمون. وهذا هو الأرجح من حيث الدلالة.

القول الثالث: إن الطائفة الأولى قد عملت عمال سيئا، فاستحقوا أن يذكرهم ربنا سبحانه وتعالى بأسوأ صفاتهم ويذكر سوء مصيرهم، حتى يحذر الناس أن يكونوا مثلهم. والطائفة الأخيرة هي طائفة ممتازة، قد عملت عملا صالحا، فاستحقوا أن يذكرهم ربنا بأحسن أوصافهم، وبنجاتهم ومصيرهم، حتى يعمل الناس مثلهم. أما الطائفة التي في الوسط، فقد ألغوا فائدة وجودهم، حيث كان وجودهم وعدمهم سواء.. هؤلاء سكتوا فسكت الله عنهم. لأن ربنا قد أعطى لهم نعمة الوجود، فألغوا هم قيمة هذه النعمة، كأن لم يكونوا موجودين.

فلابد أن تمارس التغيير.. أنت لاتمارس هواية في وقت الفراغ، ولا تمارس مجرد فريضة من جملة فرائض واجبة عليك وفقط. بل أنت تمارس محاولة لإنقاذ نفسك وأهلك وأولادك في الحياة..

ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن وجود قدر من الصلاح، إذا لم يكفِ لمقاومة الفساد، فإنه لا يمنع العقوبات الكونية العامة في الدنيا، وبذا أجاب غ من سأله متعجبا: (أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ)[9].. لماذا تركته يكثر؟؟.. إذا كثر الخبث، حصلت العقوبات العامة.

وفي الحديث: “يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا ببيْداءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ”. قَالَتْ عائشة رضي الله عنه: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُخْسَفُ بَأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنهُمْ،؟ قَالَ: صلى الله عليه وسلم يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِم وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُون عَلَى نِيَّاتِهِمْ![10].. فالعقوبة العامة هنا، لم تثبت التساوي في الجريمة العامة، فلكل نيته، ويتفاوتون في الآخرة، لكن العقوبة الأولى الكونية في الدنيا قد شملتهم.

فلابد أن تمارس التغيير.. أنت لاتمارس هواية في وقت الفراغ، ولا تمارس مجرد فريضة من جملة فرائض واجبة عليك وفقط. بل أنت تمارس محاولة لإنقاذ نفسك وأهلك وأولادك في الحياة.. في الدنيا والآخرة.. لأن عدم التغيير إعانة لأهل الباطل، وهذه نقطة خطيرة رأيناها في بعض إخواننا في المواطن الشديدة.. قالوا: إنهم تعبوا ولن يستمروا، لأنه لا يوجد حل مرض، ولا شرعيّ بشكل كامل. وبدأ الشيطان يزين لهم ترك الطريق، وغفلوا عن خطورة ترك التغيير التي نتكلم عنها.

قد يقال: ألا يكفي أن تنكر مجموعة من المصلحين.. فيسع غيرهم أن يتركوا هذا العمل إلى غيره؟؟.. والجواب: إن هؤلاء الذين أنكروا ما استطاعوا أن يمنعوا المنكر، ولا أن يحققوا مقصود التغيير، فاتسع الواجب ليشمل الباقين، كل بحسب قدرته.

لأنه متى يقال بسقوط الفرض الكفائي؟.. إنه لا يقال بذلك إلا إذا حصلت الكفاية، وإلا بقيت الفرضية، لعدم تحقق الكفاية. فكما يقول علماء الأصول، في التفريق بين فرض العين وفرض الكفاية: إن فرض العين، المقصود فيه أن يوجده كل معين. أما فرض الكفاية، فالمقصود فيه أن يوجَد، بغض النظر عمن يوجده. فالعبرة هنا أن يوجَد، فيكون في حق من فعله مستحبا، ويسقط الإثم عن الجميع.

لكن ما الحكم إذا لم تحصل الكفاية؟.. يقول العلماء: يأثم كل قادر بحسب قدرته. والشاطبي / يقول كلاما قيما في هذه المسالة (يأثم كل قادر بحسب قدرته) لأن من الناس من يحب أن يخلي مسئوليته، فيقول لك: الحمد لله.. فالعلماء الذين عندهم علم سيأثمون، لأنهم ما قاموا بالواجب عليهم.. ولست منهم. والخطباء الذين كان واجبا عليهم أن يبينوا للناس وما بينوا، سيحاسبون على تقصيرهم.. ولست منهم أيضا. وأصحاب الأموال الذين كان المفروض عليهم أن يبذلوا منها، سيؤاخذون.. ولست أنا. والأقوياء الذين كان مطلوبا منهم أن يجاهدوا سيسألون .. ولست أنا. فليعذب هؤلاء كلهم، لأنهم ما قاموا بالفرض الذي عليهم. ويتوهم أنه هو يسلم من هذه المسئولية الشرعية!!

فماذا عملت أنت.. للعالم وللخطيب وللغني وللقوي؟؟.. إنك مطالب أن تحثهم وتعينهم على القيام بالفرض، أنت مطالب أن تساعدهم على القيام بالفرض.. وهذا أمر أنت تقدر عليه، وربنا سيحاسبك على ما تقدر عليه ولم تعمله.

يقول الشاطبي رحمه الله: “لكن قد يصح أن يقال: إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز، لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة؛ فهم مطلوبون بسدها على الجملة:

  1. فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها،
  2. والباقون- وإن لم يقدروا عليها- قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية؛ فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها؛ مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها؛ فالقادر إذا مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إِذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب مالا يتم الواجب إلا به”[11].

فحاصل كلامه أن الوجوب يتعلق بطائفتين:

  1. الطائفة المؤهلة لعمل نفس الشيئ الذي يسقط الفرض، وهذا ظاهر، لا خلاف عليه.
  2. لكن هناك وجوبا على غيرهم، ممن يقدر أن يحثهم ويعينهم، فهؤلاء عليهم ذلك، حتى يقيموا الفرض.

فماذا عملت أنت.. للعالم وللخطيب وللغني وللقوي؟؟.. إنك مطالب أن تحثهم وتعينهم على القيام بالفرض، أنت مطالب أن تساعدهم على القيام بالفرض.. وهذا أمر أنت تقدر عليه، وربنا سيحاسبك على ما تقدر عليه ولم تعمله. وهكذا الكلام في كل ما هو فرض على الكفاية.. فلا يتوجه الوجوب فقط إلى أصحاب القدرة الظاهرة، بل لا بد لغيرهم ممن وراءهم أن يقيموهم ويعينوهم، وهؤلاء ينالهم قدر من الإثم بقدر ما تراخوا في القيام بهذه الفريضة، لذا كان العلماء يقررون أنه إذا لم تتحقق الكفاية، فإنه “يأثم كل قادر بحسبه” كما سبق.

إن الانسحاب من معركة التغيير الواجبة، خذلان للحق في الأرض، وإضعاف لقلوب المؤمنين، ودعم لوجود وزيادة الباطل في الأرض، وتشجيع لقلوب المفسدين. إن عدم التغيير نقص في الإيمان الواجب، وتفريط في الهداية يخرج صاحبه من الوعد الرباني: (لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡۚ)[12].. فيضره ضلال الضال، إذ لم يحقق الهداية بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.

إن التقصير في هذا الواجب العظيم سبب تستجلب به العقوبات الكونية العامة، فلن نكون في مأمن نحن ولا أهلونا وأبناؤنا، إلا إذا سرنا في هذا الطريق، الذي سار فيه رسول الله محمد غ وأصحابه الكرام ﭫ، ومن سار على درب القوم.. فسوف يلحق بهم يوما ما.

ملاحظة: المقال منقول من كتاب ملف التغيير للدكتور أشرف عبدالمنعم

________________________

[1]– [هود – 117].
[2]– البخاري (2493) عن النعمان بن بشير س .
[3]– [الببقرة – 251].
[4]– [النساء – 140].
[5]– [النساء – 140].
[6]– [النساء – 140].
[7]– [الأعراف – 163].
[8]– [الأعراف – 165].
[9]– البخاري (3346) عن أم المؤمنين زينب بنت جحش ك .
[10]– البخاري (2118) عن أم المؤمنين عائشة ك .
[11]– الموافقات (1/283 – 284).
[12]– [المائدة- 105].

التعليقات