استراتيجيات الدول الكبرى قبيل القرن العشرين

خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، صارت بريطانيا وفرنسا وألمانيا هي الدول الفاعلة في المشهد الأوروبي ومن ثم المشهد العالمي، بينما كانت الدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية تعانيان من مخاض التدهور والتمزق. أما أميركا فكانت تتبنى سياسة العزلة والابتعاد عن التورط في مشاكل خارج القارة الأمريكية، ولم تنخرط في الأحداث العالمية سوى عام 1898 إثر حربها ضد إسبانيا.

وقد لعبت الجغرافيا دورا كبيرا في تشكيل استراتيجيات الدول الكبرى التي كانت تشكل قلب النظام الدولي السائد آنذاك، فوفقا لروبرت باستور (تفرض الحقائق الجغرافية نفسها بقوة، فالدول تغير قادتها، ونظمها السياسية، وسياستها الاقتصادية، لكنها لا تستطيع أن تغير جغرافيتها). ويسعى هذا المقال لاستعراض استراتيجيات أبرز الدول الكبرى آنذاك بشكل إجمالي.

أولا: ألمانيا ولعنة الجغرافيا:

مثل إعلان المستشار البروسي بسمارك تأسيس الإمبراطورية الألمانية بقيادة غليوم الأول من داخل قصر فرساي بباريس في عام 1871، تأكيدا على ميلاد لاعب أوروبي جديد مثل محور التطورات السياسية في أوروبا والعالم لمدة 75 عاما، أي إلى نهاية الحرب العالمية الثانية.

ولدت الدولة الألمانية الناشئة في قلب القارة الأوروبية وسط خصوم يحيطون بها من كافة الجهات، فرنسا من الغرب، وروسيا من الشرق، وإمبراطورية (النمسا- المجر) من الجنوب الشرقي، وبريطانيا من جهة بحر الشمال. ومن ثم واجهت ألمانيا خطرا استراتيجيا تمثل في مواجهة ائتلافات تشكلها دول الجوار، وخوض حروب متعددة الجبهات في وقت واحد. وبالتوازي مع ذلك افتقدت ألمانيا إلى الثروة التجارية التي تحوزها الدول الاستعمارية الكبرى، كما افتقدت إلى العزلة الجغرافية التي تتمتع بها أميركا خلف المحيطات أو بريطانيا خلف بحر الشمال. ولعبت تلك العوامل بالإضافة إلى الجبهات المكشوفة والأراضي الضيقة دورا محوريا في تبني ألمانيا لاستراتيجية هجومية تعتمد على سرعة وتركيز القوات المسلحة، والسعي لتحقيق فوزا مباغتا على الأعداء.

اعتمدت الخطط العسكرية الألمانية على ضرب الجناحين الروسي والفرنسي قبل أن يتمكنا من الإطباق على المركز الألماني، وذلك عبر القيام بالضربة الأولى وتحطيم الجيش الفرنسي قبل أن يحشد الجيش الروسي قواته، ولذا ظل البعد الهجومي حاضرا في الاستراتيجية الألمانية. ولكن المستشار الألماني بسمارك رفض تنفيذ خطة رئيس الأركان فون مولتكه القاضية بشن حرب على جبهتين ضد فرنسا وروسيا قائلا (أنه لا يرغب في الانتحار خوفا من الموت). واعتمد بدلا من ذلك على التحالفات التي تحول دون تكتل أعداء ألمانيا في حلف واحد ضدها. فتجنب بسمارك الدخول في تنافس استعماري مع بريطانيا، في حين شجع فرنسا على القيام بذلك كي تنشأ قضايا خلافية بين فرنسا وبريطانيا تمنع تكتلهما ضد ألمانيا. وكذلك عقد بسمارك تحالف (وفاق الأباطرة الثلاث) بين ألمانيا، وروسيا، والإمبراطورية الروسية المجرية. وكذلك عقد حلفا ثلاثيا بين ألمانيا وايطاليا الإمبراطورية الروسية المجرية. إلا أنه برحيل بسمارك من منصبه عام 1890 تبنت القيادة الألمانية الجديدة مقاربة خوض حربين ضد فرنسا ورسيا على جبهتين في ذات الوقت، وهو ما ساهم في تكتل خصوم ألمانيا ضدها خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن ثم تمكنهم من القضاء على المشاريع الألمانية التوسعية بل وفرض استسلام مذل عليها.

ثانيا: الإمبراطورية البريطانية:

تتكون بريطانيا من جزر معزولة عن بقية أنحاء القارة الأوروبية، ونجحت خلال القرنين الثامن والتاسع عشر في بناء إمبراطورية ممتدة الأطراف في أسيا وأفريقيا وأجزاء من الأمريكيتين. فحكمت قرابة خمسين مستعمرة يبلغ عدد سكانهم تسعة أضعاف سكان بريطانيا ذاتها. وقد انبثقت الاستراتيجية البريطانية من حقيقة كونها جزيرة لها مصالح مترامية الأطراف عبر أنحاء العالم. وقامت هذه الاستراتيجية على محورين:

الأول:

الحفاظ على الممرات البحرية التي تمكن بريطانيا من الوصول إلى بقية مستعمراتها. وتضمن ذلك بناء قواعد عسكرية في الأماكن الاستراتيجية التي تربط خطوط المواصلات البحرية للإمبراطورية مثل: عدن باليمن، وقناة السويس في مصر، وساحل الخليج العربي، وجبل طارق، وقبرص، ومالطة.

الثاني:

منع أي دولة أوروبية من فرض هيمنتها على بقية أنحاء أوروبا، باعتبار أن من يسيطر على القارة الأوروبية سيحوز ثروة وقوة تسمح له بتهديد الجزر البريطانية ذاتها، ولذا تصدت بريطانيا لمشاريع نابليون التوسعية في مطلع القرن التاسع عشر، وكذلك فعلت مع هتلر لاحقا خلال القرن العشرين. كما خاضت حروبا متعددة ضد روسيا لوقف التمدد الروسي في أوروبا على حساب العثمانيين مثلما حدث خلال حرب القرم (1853- 1856).

تلك الوضعية الجغرافية لبريطانيا أعفتها من ضرورة الاحتفاظ بقوات برية ضخمة نظرا لصعوبة تعرض أراضيها للغزو عبر البحر، وهو ما ساهم في تقليل نفقاتها العسكرية مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى التي كانت تتحمل نفقات عسكرية باهظة تضطرها في كثير من الأحيان إلى فرض ضرائب باهظة تضر بالحالة التجارية والاقتصادية والزراعية.

وقد جاءت أبرز التهديدات للمصالح البريطانية من قبل فرنسا وإسبانيا، بينما بعد تأسيس ألمانيا الموحدة، صارت ألمانيا هي مصدر التهديد الرئيسي نظرا لكثافتها السكانية، وقاعدتها الصناعية القوية، وجيشها المتطور، ومشاريعها التوسعية في قلب القارة الأوروبية. وقد أسفرت لاحقا الحروب الطاحنة مع ألمانيا عن تدهور الإمبراطورية البريطانية، وفقدانها لكثير من نفوذها لصالح أميركا.

ثالثا: فرنسا:

مثل إعلان تأسيس ألمانيا الموحدة من داخل العاصمة باريس برهانا على الخطر الداهم الذي مثله الألمان على فرنسا، والذين نجحوا مجددا بعد 70 سنة في اجتياح باريس أثناء الحرب العالمية الثانية. بزوغ القوة الألمانية دفع فرنسا الأضعف ديموغرافيا للبحث عن حلفاء يدعمونها ضد الخطر الألماني، وهو ما وجدته فرنسا في بريطانيا وروسيا. وكذلك أدركت فرنسا عبثية تبني أي مشاريع توسعية في أوروبا الجديدة، ومن ثم سعت لبناء إمبراطورتيها الاستعمارية في إفريقيا وآسيا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فاحتلت فرنسا الجزائر وتونس والمغرب ومعظم غرب إفريقيا، فضلا عن بسط نفوذها في لبنان بزعم حماية الموارنة. وأثناء ذلك تصارعت الدول الأوروبية وبالأخص بريطانيا وفرنسا على النفوذ في المستعمرات التي مثلت موردا هاما للمواد الخام، وسوقا رئيسيا لتصريف السلع الأوروبية قبل أن يصلا لاتفاق لتقاسم مناطق النفوذ عرف باسم الاتفاق الودي عام 1904. إلا أن قوة فرنسا في أوروبا تراجعت إلى المركز الثالث بعد بريطانيا وألمانيا.

رابعا : الإمبراطورية النمساوية المجرية، وروسيا، والدولة العثمانية

عانت الإمبراطورية النمساوية المجرية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر من أزماتها الداخلية، والتي نتجت عن تعدد القوميات المكونة للدولة، وتزايد النزعات الانفصالية لدى العرقية السلافية، فضلا عن المشاكل مع الدول الجديدة الوليدة مثل ألمانيا وإيطاليا، فسكان الإمبراطورية الألمان صاروا أقرب لألمانيا، أما إيطاليا فاقتطعت أجزاء من الإمبراطورية النمساوية المجرية، والتي فقدت آخر أهم منافذها البحرية على البحر الأدرياتيكي إثر انضمام البندقية إلى إيطاليا. وكذلك عانى النظام الإمبراطوري من تصاعد الأفكار الجمهورية، ورفض نمط الحكم الملكي المطلق.

أما روسيا فكانت تعاني من التخلف الصناعي، وقلة السكك الحديدية، وضعف مستوى التسليح، ولذا تجنبت الدخول في نزاعات مع ألمانيا الوليدة، بينما وجهت جهودها لانتزاع أكبر قدر ممكن من الأراضي العثمانية في أسيا، وكذلك عملت روسيا على تأليب شعوب البلقان ضد العثمانيين، وضد الإمبراطورية النمساوية المجرية، وهو ما توج باستقلال صربيا والجبل الأسود ورومانيا عن الدولة العثمانية إثر أزمة البلقان عام 1875، وتصاعدت تداعيات الصراع في البلقان إلى أن أدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. وهو ما سيتناوله المقال القادم بإذن الله.

المصادر:
– (رحلة قرن، كيف شكلت القوى العظمى بنية النظام الدولي الجديد)، تأليف روبرت باستور وآخرين، ط1. المركز القومي للترجمة، 2010.
– (تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين) للدكتور محمد السيد سليم- ط1. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، 2002.
مصدر المقال: موقع البوصلة

التعليقات