من أسرار الإعجاز

الفاعلية القرآنية الكونية:

وإدراك الفاعلية الكونية لا يمكن تحقيقه إلا بقياس أثر القرآن في الوجود الكوني بصورته المباشرة. ومن هنا يأتي قول الله عز وجل: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).

ولكن الفاعلية الكونية المباشرة لا تظهر إلا باعتبار طبيعة الحجية القرآنية وإنه ذو طبيعة عقلية إقناعية.

ومن هنا يجب تصوره باعتباره حجة عقلية من خلال قياسه على جميع المعجزات والخوارق الكونية التي أرسل بها الأنبياء من قبل؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة).

ويقول ابن كثير في هذا الحديث: إن البراهين التي كانت للأنبياء انقرض زمانها في حياتهم ولم يبق منها إلا الخبر عنها، وأما القرآن فهو حجة قائمة كأنما سمعه السامع من فم رسول الله صلى عليه وسلم إذ لو لم يكن الأمر كذلك لأصبح القرآن أولى الكتب بالفاعلية الكونية الخارقة، ولهذا جاء في قول الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً).

قول ابن كثير: يقول الله تعالى مادحا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة من قبله: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال)، أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها أو تقطع به الأرض وتنشق، أو تكلم به الموتي في قبورها لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لم فيه من هذا الإعجاز.

واستمرارا في تفسير الفاعلية القرآنية نذكر أن الفاعلية تتحقق من خلال عدة نواحي:

1) الفاعلية من خلال ناحية سبب النزول:

ومنه كلمة (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) التي أورد فيها البخاري والنسائي في قول ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، فأصبحت سببا باقيا في تفريج أي كربة يقع فيها أي مسلم إلى قيام الساعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، وقال إذا غلبك أمر فقل: (حسبي الله ونعم الوكيل) فدل ذلك على ان الآية باقية الأثر قدرا من خلال سبب نزولها.

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم إمتداد فاعلية الكلمة حتى قيام الساعة فقال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحني جبهته ليستمع متي يؤم فينفخ). فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نقول؟ قال: (قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا).

2) الفاعلية من خلال الصيغة القرآنية:

ومنه قول الله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: (لن يغلب عسر يسرين)، فتقررت حقيقة أن العسر لا يغلب يسرين من تكرار (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)، مرتين.

3) الفاعلية من خلال الموضوعية القرآنية:

ومعناها أن موضوع الآية أو السورة هو المحقق لفاعليتها مثل تفسير سور المعوذتين التي تكون بها الرقية من الشيطان وفيها الاستعاذة.

ويقع تحت الفاعلية الموضوعية أن تصبح كل الأخبار الواردة في القرآن شاهدا صادقا على البشرية منذ بداية الخلق حتى قيام الساعة. ومثال ذلك أن يأتي القرآن شاهدا على قوم نوح بأن الله أرسل إليهم رسولا.

4) الفاعلية من خلال مصدر الآيات:

ومثالها خواتيم سورة البقرة التي أنزلت من كنز من تحت عرش الرحمن فكان فاعليتها (أن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه خواتيم سورة البقرة)، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.

التفسير الأساسي للفاعلية القرآنية:

غير أن التفسير الأساسي للفاعلية الكونية القرآنية الذي يؤكد الارتباط بين مضمون الحق في الآيات وفاعليتها الكونية هو سورة الفاتحة، وفيه يربط ابن القيم بين هذا المضمون وتلك الفاعلية من خلال اشتمال الفاتحة على مضمون الحق الكامل، وفاعليتها الكونية الثابتة، فيقول في اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة:

وهذا يعلم بطريقتين مجمل ومفصل:

أما المجمل فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق، وإيثاره وتقديمه على غيره، ومحبته والانقياد له والدعوة إليه، وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.

والحق هو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما جاء علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى، وكل ذلك مسلم إلى رسول صلى الله عليه وسلم دون أراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم.

فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته، وعليه السكة المحمدية بحيث يكون ضرب المدينة فهو من الصراط المستقيم، ومالم يكن ذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال. فما ثم خروج عن هذه الطرق الثلاثة طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وماجاء به، وطريق أهل الغضب وهي طريق من عرف الحق وعانده، وطريق أهل الضلال وهي طريق من أضله الله عنه، ولهذا قال عبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما: الصراط المستقيم هو الإسلام وقال عبد الله بن مسعود وعلى بن أبي طالب رضي الله عنهما: هو القرآن وفيه حديث مرفوع وهو الترمذي وغيره، وقال سهل بن عبد الله: طريق السنة والجماعة، وقال بكر بن عبد الله المزني: طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولاريب أن ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه وإيثاره على غيره، هو الصراط المستقيم، وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه، جامعة له فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ماخالفه فهو الباطل، وهو من صراط الأمتين أمة الغضب وأمة أهل الضلال.

وأما تضمنها لشفاء الأبدان فنذكر فيه ماجاءت به السنة وماشهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة، فأما ما دلت عليه السنة، ففي صحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن ناسا من أصحا النبي صلى الله عليه وسلم مروا بحي من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم فلدغ سيد الحي فأتوهم فقالوا: هل عندكم من رقية أو هل فيكم من راق؟ فقالوا: نعم ولكنكم لم تقرونا، فلا تفعل حتى تجعلوا لنا جعلا، فجعلوا لهم على ذلك قطيعا من الغنم، فجعل رجل منا يقرأ عليه الفاتحة، فقام كأن لم يكن به قلبة، فقلنا: لاتجعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيناه فذكرنا له ذلك فقال: مايدريك أنها رقية كلوا واضربوا لي معكم بسهم.

فقد تضمن هذا الحديث حصوله شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء، وربما بلغت من شفائه مالم يبلغه الدواء، وهذا مع كون المحل غير قابل، إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين، أو أهل بخل ولؤم فكيف إذا كان المحل قابلا؟!

ثم يأتي الموضوع المباشر للاستشهاد بقول ابن القيم:

ومنكر هذا ليس معدودا من بني آدم إلا بالصورة والشكل فإذا قابلت النفس الزكية العلوية الشريفة التي فيها غضب وحمية للحق هذه النفوس الخبيثة السمية، وتكيفت بحقائق الفاتحة وأسرارها ومعانيها، وماتضمنه من التوحيد والتوكل والثناء على الله وذكر أصول أسمائه الحسنى، وذكر اسمه الذي ماذكر على شر إلا أزاله ومحقه، ولاعلي خير إلا نماه وزاده؛ دفعت هذه النفوس بما تكيفت به من ذلك أثر تلك النفس الخبيثة الشيطانية، فحصل البرء، فإن مبني الشفاء والبرء على دفع الضد بضده وحفظ الشئ بمثله فالصحة تحفظ بالمثل والمرض يدفع بالضد، أسباب ربطها بمسبباتها الحكيم العليم خلقا وأمرا. ولايتم هذا إلا بقوة من النفس الفاعلة، وقبول من الطبيعة المنفعلة. فلو لم تنفعل نفس الملدوغ لقبول الرقية ولم تقو نفس الراقي على التأثير لم يحصل البرء.

فهنا أمور ثلاثة: موافقة الدواء للداء، وبذل الطبيب له، وقبول طبيعة العليل. فمن تخلف واحد منها لم يحصل الشفاء، وإذا اجتمعت حصل الشفاء ولابد بإذن الله سبحانه وتعالى.

ومن عرف هذا، كما ينبغي تبين له أسرار الرقى، ويميز بين النافع منها وغيره، ورقى الداء بما يناسبه من الرقى، وتبين له أن الرقية براقيها وقبول المحل، كما أن السيف يضاربه مع قبول المحل للقطع، وهذه إشاره مطلعة على ماوراءها لمن دق نظرة وحسن تأمله، والله أعلم.

وأما شهادة التجارب؛ بذلك فهي أكثر من أن تذكر، وذلك في كل زمان، وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة، ولاسيما مدة المقام بمكة، فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط. جربت ذلك مرارا عديدة، وكنت أخذ قدرا من ماء زمزم. فأقرأ عليه الفاتحة مرارا، فأشربه فأجد به من النفع والقوة مالم أعهد مثله في الدواء. والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان.

مما سبق من أمثلة تفسر مفهوم الفاعلية القدرية القرآنية. ومن ناحية أسباب نزول الآيات وموضوعها وصيغتها ومصدرها ومن ناحية مضمونها. فإذا كانت الدعوة هي السبب الأصلي لنزول القرآن، وهي موضوع القرآن ومضمونه، فإن المجاهدة بالقرآن في هذه الدعوة هو الذي يحقق أقصى فاعلية قدرية للقرآن وهي التي تتمثل في إنشاء واقع الدعوة الصحيح وتحقيق غايتها التامة.


التعليقات