فن التعامل مع الشبهات.. كل دجال أعور

الدنيا محل امتحان ففيها مواد الامتحان، وفيها مقومات النجاح فيه، كما أن فيها إمكانية الفشل فيه أيضًا. فهي محل لوجود الحق والباطل، ومحل بالتالي لصراع الحق والباطل، فكما أن للحق فيها بينات وآيات، فللباطل فيها زخارف وشبهات.

لهذا كانت فتنة الدجال أعظم فتنة إلى قيام الساعة، حيث تشتد حاجة الناس إلى الدنيا مع تجمع الدنيا في يد الدجال فيكون مجمع الشهوات لأهواء البشر..

وإن كان الإخلاص والإيمان من أعظم ما يعين على تمييز البينات واتباع الآيات، فإن الهوى والفسوق من أهم أسباب الاعتزاز بزخرف الشبهات، واتباع الشهوات.

لكن الفتنة تشتد كلما عظم تعلق القلوب بالشهوات، وكلما تلبس الباطل بالحق في الشبهات، في مُركَّب باطنه هوى جامح، وظاهره رأي فاتن، حيث توفر الشهوة الدافع المحرك لقبول الشبهة، وتوفر الشبهة الغطاء المزيِّن للوصول إلى الشهوة.

لهذا كانت فتنة الدجال أعظم فتنة إلى قيام الساعة، حيث تشتد حاجة الناس إلى الدنيا مع تجمع الدنيا في يد الدجال فيكون مجمع الشهوات لأهواء البشر، ويظهر على يديه من الخوارق، التي تموه على الناس ما يزخرف به دعوى الربوبية، والتي هي أصعب الدعاوى، فيكون مجمع الشبهات لعقول البشر، فيتابعه أكثر الناس إيثارًا للشهوات، واغترارًا بالشبهات.

ولأن فعل الله –عز وجل- وتدبيره لعباده، دائر بين العدل والفضل قضى ربنا بعدله ألا يسوى بين الآيات والشبهات، فبينما لا يسلم معارض للآيات، فإنه لا تسلم شبهة من معارض يبطل دعواها ويكشف زيفها.

وهكذا كل دجال يموه بشبهات، ليمرر دعوى باطلة يلبسها ثوب الحق بغير حق.

فالدجال الذي يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض، بل تتمثل الشياطين على صور ممن مات من أباء الأحياء، كأنما بعثهم ليشهدوا له بالربوبية أمام أبنائهم، هذا الدجال الذي تظهر معه كل هذه الخوارق وغيرها، على وجهه أقوى معارض يبطل دعواه. «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور» متفق عليه أخرجه البخاري 6749 ومسلم 5352 من حديث أنس -رضى الله عنه- فكل شبهات الكمال التي يبديها، لا يمكنها آن تمحو آية النقص الظاهرة على أشرف وأوضح ما فيه، على وجهه.

وهكذا كل دجال يموه بشبهات، ليمرر دعوى باطلة يلبسها ثوب الحق بغير حق. لابد أن يكون لشبهته معارض بيِّن يفضح زيف دعواه، على وجه لا يمكن إخفاؤه، ولا التخلص منه ومن تأمل في شبهات المبطلين قديمًا وحديثًا، ظهر له مصداق ذلك.

لهذا أثنى رب العالمين –سبحانه- على “الراسخين في العلم” في مقابل (الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنه وابتغاء تأويله) [آل عمران 7 ] لأنهم هم الذين يسددون الضربة القاضية للباطل، بالإلحاح على بيان “عور الدجال” الذي يكشف زيف الشبهات، من خلال إظهار نقطة ضعفها القاتلة، وبهذا يتميز أهل الرسوخ في العلم.

شهوات أهل الهوى تحرمهم من إيمان يريهم الحقائق، ومن إنصاف يزنون به “عور الدجال” أمام “شبهاته على دعواه”..

وإن كان فضل الله على المؤمنين أوسع مما سبق من عدله، فلذلك يقيم الله للمؤمن من بصيرة الإيمان ما يميز به بين الحق والباطل {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، فيقرأ بين عيني الدجال “كافر” أو “كفر” _ كما في حديث أنس السابق – رغم كل ما يبديه الدجال من شبهات ليدعي الربوبية، لكنها بصيرة الإيمان التي تتجاوز أدوات العلم، لذلك يقرأه “كل مؤمن كاتب وغير كاتب” من حديث أنس أخرجه مسلم 2933 وبهذا يتميز المؤمنون عن غيرهم عند الفتن، في تعاملهم مع دجَلَ الشبهات، وفي اتباعهم لبينات الحق على بصيرة، ويتفاوتون في ذلك بحسب إيمانهم.

وبالمقابل، فإن شهوات أهل الهوى تحرمهم من إيمان يريهم الحقائق، ومن إنصاف يزنون به “عور الدجال” أمام “شبهاته على دعواه”. فيبقى الدجال رغم كل ذلك له أتباع “فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ” وقلّ دجال إلا ووجد من متبعي الشهوات من يتغاضون عن عوره، ويتشبثون بشبهاته، من أجل أهوائهم، وهؤلاء في كل زمان ومكان، هم أتباع كل دجل أعور.

فإنه ما بقيت الدنيا، سيبقى حق وباطل في تدافع مستمر، وستبقى بينات وشبهات في تعارض متجدد، وسيبقى الناس هم الناس -وإن اختلفت النسب بينهم، بحسب اختلاف الأحوال-، ففيهم أهل الدجل، وفيهم أهل الرسوخ في العلم، وفيهم مخلصون يهديهم ربهم بإيمانهم، وفيهم من زاغت قلوبهم بالهوى فاتبعوا شبهات الدجل.


التعليقات