ازرع الأمل ولا تَبِعِ الوهم

هناك فرق كبير بين أن يعمد الإنسان إلى بث روح اﻷمل والطمأنينة في نفوس المسلمين، وخاصة في مواطن اشتداد البلاء، وبين أن يتخصص الإنسان في نشر الإشاعات وبيع الأوهام والأحلام الكاذبة.

فمن الأول:

قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لخبّاب بن الأرَتّ: “والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه …”، وقد قال ذلك في أحلك الظروف في مكة.

في يوم الهجرة، حين قال أبو بكر الصدّيق للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا) فرد عليه الصلاة والسلام بكل ثقة ويقين وحسن ظن في الله عز وجل قائلاً: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”، قوله عليه الصلاة والسلام لسراقة في رحلة الهجرة، (حيث المطاردة والملاحقة والمطالبة بدمه، والكل يبحث عنه حرصاً على الجائزة المرصودة): “كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟”

عندما حاصر الأحزاب المدينة، حيث البرد والجوع والخوف والظروف القاسية جداً، ينزل عليه الصلاة والسلام ليكسر الصخرة ويقول بعد الضربة الأولى: “الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة”، وبعد الثانية: “أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض”، وبعد الثالثة: “أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة” قال ذلك في أحلك الظروف وأسوئها في المدينة، حيث كان الوضع كما وصف الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}. والمتأمل لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن هذا كان نهجا عاما، وليس مجرد مواقف عابرة، بل حتى في سِيَرِ الأنبياء السابقين..

ومن الأمثلة على ذلك: قول نوح -عليه الصلاة والسلام- لقومه حين سخروا منه أثناء صنعه الفلك: {إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}. ورَدّ موسى -عليه الصلاة والسلام- حين قال أصحابه {إنا لمُدرَكون} = {قَالَ كَلَّا ۖ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} وغيرهما>

ولا تخفى طبعًا الآيات التي تبشر بنصر الحق وأهله، وخذلان الباطل وأنصاره:

كقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ (في الدنيا) وَتُحْشَرُونَ (في الآخرة) إِلَىٰ جَهَنَّمَ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}. وقوله: {فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} وقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ 171 إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ 172 وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.

ومن الثاني (الكذب لتصدير الوهم):

ولم نعلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أقرَّ الصحابة على شيء من الوهم المنافي للحقيقة، فكان يؤثر ذكر الحقيقة حتى لو كانت صادمة للنفوس، كما حدث يوم مؤتة..

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، قال الحسن البصري: (المؤمن وقّاف حتى يتبين). قوله عليه الصلاة والسلام: “وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور …، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذابًا”. قوله عليه الصلاة والسلام: “كفى بالمرء إثمًا أن يُحَدّثَ بكل ما سمع”، قال النووي: فإنه يسمع في العادة الصدقَ والكذبَ، فإذا حدّث بكل ما سمع.. فقد كذب، لإخباره بما لم يكن، [والكذب] الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، ولا يشترط فيه التعمد. اهـ

حديث أبي قلابة قال: قيل لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في زعموا؟ قال: “بئس مطيّة الرجل زعموا” قال العظيم أبادي: أسوأ عادة للرجل أن يتخذ لفظ [زعموا] مركبًا إلى مقاصده، فيخبر عن أمر تقليدًا، من غير تثبت، فيخطئ ويُجَرَّب عليه الكذب. اهـ (نقله عنه المناوي).

والخلط بين الأمرين لا دليل عليه من الشرع، ولا الواقع أثبت له نفعا:

ففي يوم أحد مثلا.. أشاع المشركون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قُتِل، ورغم ذلك لم يواجه المسلمون هذه الإشاعة بإشاعة مقتل أبي سفيان أو غيره من قادة المشركين آنذاك.

بل إن إشاعة أن كفار قريش أسلموا وقت أن كان فريق من المؤمنين مهاجرا في الحبشة.. كان لها أسوأ الأثر، حيث رجع بعض المسلمين إلى مكة، فتحملوا مشقة الطريق، ثم أخذتهم قريش وتعرضوا للتعذيب على أيدي المشركين.

ومن أعجب الأمور التي يقع فيها البعض حاليًا، أن تأتي لأحدهم خاطرة، أو يظن ظنًّا ما، أو يتمنى أمرًا.. فيخشى إن نسبه لنفسه ألا يحصل له رواج وألا ينتشر بين الناس، فيدفعه ذلك إلى نسبته إلى أحد المشاهير، أو إلى أحد القنوات أو المواقع الإخبارية!!

ولم نعلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أقرَّ الصحابة على شيء من الوهم المنافي للحقيقة، فكان يؤثر ذكر الحقيقة حتى لو كانت صادمة للنفوس، كما حدث يوم مؤتة، حيث وقف النبي -عليه الصلاة والسلام- بين الصحابة ليخبرهم بالحقيقة المؤلمة: “أخذ الراية زيد فأصيب (قُتِل)، فأخذها جعفر فأصيب، فأخذها عبد الله بن رواحة فأصيب” كل ذلك وهو يبكي عليه الصلاة والسلام، ثم ختم بالبشرى التي تجري على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه. وفي أحدى المعارك، قال عن رجل كان من أشد الناس على المشركين: “هو في النار”.

ومن أعجب الأمور التي يقع فيها البعض حاليًا، أن تأتي لأحدهم خاطرة، أو يظن ظنًّا ما، أو يتمنى أمرًا.. فيخشى إن نسبه لنفسه ألا يحصل له رواج وألا ينتشر بين الناس، فيدفعه ذلك إلى نسبته إلى أحد المشاهير، أو إلى أحد القنوات أو المواقع الإخبارية!! وهذا يذكرني بأحد أسباب وضع الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- رغم الذم والوعيد الشديد الذي ينتظر فاعليه.

ولا يدري هؤلاء كَمّ الإحباط الذي يصيب النفوس بعد ظهور كذب كلامه، بسبب ما بُنِي عليه من التعلق بالأحلام والأوهام؛ فيحدث عكس ما يريد!!

ألا.. فليتّقِ اللهَ أناسٌ يُخَذّلون المسلمين عن نصرة دينهم، والثبات في مواجهة عدوهم، بدعوى أشبه بدعوى المنافقين الأولين {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}، {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ….}وآخرون يحسبون أن التثبيت يحصل بنشر الأوهام والأكاذيب والإشاعات.

الخلاصة:

إن بث روح الأمل والطمأنينة في قلوب المؤمنين أمر مشروع في الجملة، واليقين في صدق وعد الله (بل وقربِه) هو هدي الأنبياء والمرسلين، وهدي أصحابهم والتابعين. أما نشر الإشاعات والأكاذيب.. فأمر مذموم شرعًا وعقلًا. لذا.. يجب على الجميع التثبت، وعدم التسرع في نقل الأخبار لحين التأكد من صحتها، حتى لو كان الخبر سارًا.

والله من وراء القصد.

المصدر: موقع البوصلة

التعليقات