ألا في الفتنة سقطوا..!!

الحمد لله رب العالمين، ولي المؤمنين، عدو الكافرين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، المنصور بالرعب على أعداء الدين، الموعود بالنصر والتمكين، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)، وبعد:

لقد تجسدت الفتنة حقًا بكل معانيها في الأحداث التي مازلنا نعايش وقائعها التي تدمي كل قلب حي ينبض بنبض الأيمان، إلا أن هذه المعاني قد تغيب على متلمس الهدى من عند غير الله، المعرض عن كلامه المشتمل على أسباب النجاة؛ فإنك تجد أكثر المحللين للأحداث يصفونها بأنها فتنة، إلا أنهم يختلفون في دلالة هذا الوصف أيما اختلاف، فمن واصف لبعضها بأنها فتنة طائفية تهدد السلام الاجتماعي وتستدعي التدخل الخارجي لحماية الأقليات، ومن واصف لبعضها بأنها فتنة سياسية تهدد هيبة الدولة، ومن واصف لبعضها بأنها فتنة يتقوى بها البعض لاستخدام العنف لخدمة المصالح الخارجية، وهكذا تتعدد الدلالات ويظل وصف الفتة قائمًا متفقًا عليه.

وعند الاختلاف يجب الرجوع لله الحكم العدل، قال تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، فإذا رجعت إلى كتاب الله وجدت أن الفتنة من المصطلحات الشرعية، ذات الدلالات المحددة، النابعة من لسان العرب، والمحكومة بسياقاتها اللغوية.

من أهم معالم الفتنة التباس الأمور واختلاط الصالح بالطالح، والخير بالشر، حتى قيل: الفتنة إذا أقبلت لا يعرفها إلا العالم، فإذا أدبرت عرفها كل أحد..

ففي تاج العروس (35/489-497): (الفَتْنُ : الإِحْراقُ بالنَّارِ)، يقالُ : فَتَنَتِ النَّارُ الرَّغيفَ: أَحْرَقَتْهُ. ويقالُ للأَمَة السَّوْداءِ مَفْتونَةٌ لأنَّها كالحَرَّةِ السَّوْداء في السَّوادِ كأنَّها مُحْترِقَةٌ. ومنه قوْلُه عزَّ وجلَّ: {يومَ هم على النَّارِ يُفْتَنُونَ}، أَي: يُحْرَقُونَ بالنارِ. وجَعَلَ بعضُهم هذا المعْنَى هو الأَصْل.

(والفِتْنَةُ ، بالكسْرِ : الخِبْرَةُ) ؛ ومنه قوْلُه تعالَى: {إنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً}، أَي خِبْرَةً. وقوْلُه عزَّ وجلَّ: {أَوَلا يَرَوْنَ أنَّهم يُفْتَنُونَ في كلِّ عامٍ مرَّةً أَو مَرَّتَيْن}، قيلَ: مَعْناهُ يُخْتَبَرُونَ بالدّعاءِ إلى الجِهادِ، وقيلَ: بإنْزَالِ العَذابِ والمَكْروه.

(والفِتْنَةُ : المِحْنَةُ)؛ عن ابنِ الأَعْرابيِّ . ومنه قوْلُه تعالى : {وهم لا يُفْتَنُونَ} ؛ أَي لا يُمْتَحَنُونَ بما يَبِينُ حَقِيقَة إيمانِهم .

(والفِتْنَةُ : المالُ والأوْلادُ) أُخِذَ ذلِكَ مِن قوْلهِ تعالى : {واعْلَموا إنَّما أَمْوالُكُم وأَوْلادُكم فِتْنَة}؛ فقد سمَّاهُم ههنا فِتْنَة اعْتِباراً بما ينالُ الإِنْسان مِنَ الاخْتِبار بهم.

(والفِتْنَةُ: الضَّلالُ والإِثْمُ والمَعْصيَةُ)، ومنه قَوْلُه تعالَى: {ألا في الفتْنَةِ سَقَطُوا}.

(والفِتْنَةُ : الكُفْرُ) ؛ ومنه قوْلُه تعالى: {والفِتْنَةُ أَشَدُّ مِن القَتْلِ}؛ وكذا قَوْلهُ تعالَى: {إنْ خِفْتُم أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُوا}.

(والفِتْنَةُ: العَذَابُ) نحْو تَعْذيبِ الكفَّارِ ضَعْفَى المُؤْمِنِين في أَوَّلِ الإسْلام ليَصُدُّوهم عن الإِيمان، ومنه قوْلُه تعالى: {على خَوْفٍ مِن فرْعونَ ومَلَئِهِم أن يَفْتِنَهُم}.

(والفِتْنَةُ: الفَضِيحَةُ)؛ ومنه قوْلُه تعالى : {ومن يرد اللّه فِتْنَتَهُ}؛ أَي فَضِيحَتَه، وقيلَ : كفْرَه.

(والفِتْنَةُ : الجُنونُ) كالفُتُونِ.

(والفِتْنَةُ: اخْتِلافُ النَّاسِ في الآراءِ) ؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ .

(والفِتْنَةُ: ما يَقَعْ بينَ الناسِ مِن الحَرْبِ والقِتالِ).

(وفَتَنَه يَفْتِنُه فتناً : أَوْقْعَهُ في الفِتْنَةِ) ؛ و(فَتَنَه فتْناً : أَمالَهُ عن القصْدِ وأَزَالَه وصَرَفَه)، وبه فُسِّر قوْلُه تعالَى: {وإن كادُوا ليَفْتِنونَك عن الذي أَوْحَيْنا إليك}، أَي يُمِيلُونك ويُزِيلُونك.

(والفَتَّانُ ، كشَدَّادٍ : اللِّصُّ) الذي يَعْرِضُ للرُّفْقةِ في طريقِهم.

(وأَيْضاً : الشَّيْطانُ) لكوْنِه يفْتنُ الناسَ بخِداعِهِ وغرُورِه وتَزْيينِه المَعاصِي.

(والفَتَّانُ : الصَّائِغُ)؛ لإِذابَتِه الذَّهَب والفِضَّة في النارِ.

(والفَتَّانانِ : الدِّرْهَمُ والدِّينارُ)؛ لأنَّهما يَفْتِنان الناسَ.

وفي المفردات للراغب الأصفهاني ص (623-625): أصل الفَتْنِ: إدخال الذّهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ}[الذاريات:13]، {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ}[الذاريات:14]، أي: عذابكم… وتارة يسمّون ما يحصل عنه العذاب فيستعمل فيه، نحو قوله: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}[التوبة:49]، وتارة في الاختبار نحو: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}[طه:40].

وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدّة ورخاء، وهما في الشّدّة أظهر معنى وأكثر استعمالا، وقد قال فيهما: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35].

والْفِتْنَةُ من الأفعال التي تكون من اللّه تعالى، ومن العبد كالبليّة والمصيبة، والقتل والعذاب وغير ذلك من الأفعال الكريهة، ومتى كان من اللّه يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإنسان بغير أمر اللّه يكون بضدّ ذلك، ولهذا يذّمّ اللّه الإنسان بأنواع الفتنة في كلّ مكان نحو قوله: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}[البقرة:191]، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ}[البروج:10]، {ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ} [الصافات:162]، أي: بمضلّين ، وقوله: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم:6].

ومن خلال هذا العرض لمعاني الفتنة واستعمالاتها في لسان العرب تتضح لنا أركان الفتنة كما يلي:

1- الفاتن: وهو فاعل الفتنة المريد لها، والفتنة إذا أسندت إلى الله فهي من أقداره الجارية على مقتضى الحكمة، لتمييز الصادق من الكاذب، والطيب من الخبيث؛ أما إذا أسندت إلى البشر فهي –في أشهر استعمالاتها- من أفعال الغواية والإضلال والإفساد في الأرض، المتوعد فاعلها بشديد العذاب وأليم العقاب.

وقدر الله الواقع في بيئة بشرية ما مسببًا الفتنة، وإن تلبس بسببها المباشر بعضهم، فإن الباقي مختبرون بما يجب عليهم تجاه من وقع عليه سبب تلك الفتنة، وبعبارة أخرى فإن الفتنة تشملهم بشكل أو بآخر.

2- سبب الفتنة أو ما يكون به الفتنة: ولما كانت بواعث الإرادة الإنسانية تدور على المحبة والخوف، كانت أسبابهما من أنواع الشرور التي يعمل الإنسان على دفعها عن نفسه وضروب الخيرات التي يجتهد في تحصيلها هي أسباب الفتنة وبها يكون الابتلاء، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}[الأنبياء:35] . والفتنة بالشر تشمل أنواع المكاره والمصائب، ومنها قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)، والفتنة بالخير تشمل أنواع الشهوات وسائر المحبوبات، ومن ذلك الفتنة بالمال والولد والنساء، قال تعالى: (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت فتنة أضر على أمتي من النساء).

وقدر الله الواقع في بيئة بشرية ما مسببًا الفتنة، وإن تلبس بسببها المباشر بعضهم، فإن الباقي مختبرون بما يجب عليهم تجاه من وقع عليه سبب تلك الفتنة، وبعبارة أخرى فإن الفتنة تشملهم بشكل أو بآخر.

3- المفتون: وهو المكلف، ومحل الفتنة فيه قلبه؛ فعليه تعرض الفتن، وعليه يظهر أثرها، قال صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا…)، والقلب له قوتان قوة علمية وقوة عملية، فعلى الأولى ترد فتن الشبهات، وعلى الثانية ترد فتن الشهوات.

كما يمكن رؤية أهم المعالم النفسية والواقعية المحددة لمشاهد الفتنة المتكررة على مر الأزمان وتعاقب العصور، وهي كما يلي:
1-الاختلاط والالتباس:

من أهم معالم الفتنة التباس الأمور واختلاط الصالح بالطالح، والخير بالشر، حتى قيل: الفتنة إذا أقبلت لا يعرفها إلا العالم، فإذا أدبرت عرفها كل أحد، وقد دلت على هذا المعنى آيات الكتاب العزيز، قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } قال الإمام ابن كثير(4/98): ومعنى قوله تعالى: { إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي: إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين، وإلا وقعت الفتنة في الناس، وهو التباس الأمر، واختلاط المؤمن بالكافر، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض.

2-الارتباك والاضطراب:

من أهم معالم الفتنة اضْطِرَابِ الرَّأْيِ وارتباك أمور الناس، مِنْ جراء وقوع سبب الفتنة، فمثلًا حُصُولِ خَوْفٍ لَا يُصْبَرُ عَلَى مِثْلِهِ، يؤدي إلى اختلاف الناس واضطراب رأيهم وارتباك أحوالهم. قال الطاهر ابن عاشور في “التحرير والتنوير” (9/316) في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}: عَقبَ تَحْرِيض جَمِيعِهِمْ عَلَى الِاسْتِجَابَةِ، الْمُسْتَلْزَمِ تَحْذِيرَهُمْ مِنْ ضِدِّهَا بِتَحْذِيرِ الْمُسْتَجِيبِينَ مِنْ إِعْرَاضِ الْمُعْرِضِينَ، لِيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ يَلْحَقُهُمْ أَذًى مِنْ جَرَّاءِ فِعْلِ غَيْرِهِمْ إِذَا هُمْ لَمْ يُقَوِّمُوا عِوَجَ قَوْمِهِمْ، كَيْلَا يَحْسَبُوا أَنَّ امْتِثَالَهُمْ كَافٍ إِذَا عَصَى دَهْمَاؤُهُمْ، فَحَذَّرَهُمْ فِتْنَةً تَلْحَقُهُمْ فَتَعُمُّ الظَّالِمَ وَغَيْرَهُ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِنْ لَمْ يَكُونُوا كَلِمَةً وَاحِدَةً فِي الِاسْتِجَابَةِ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَبَّ بَيْنَهُمُ الِاخْتِلَافُ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهُمْ وَاخْتَلَّ نِظَامُ جَمَاعَتِهِمْ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَذَلِكَ الْحَالُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفِتْنَةِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى الْفِتْنَةِ يَرْجِعُ إِلَى اضْطِرَابِ الْآرَاءِ، وَاخْتِلَالِ السَّيْرِ، وَحُلُولِ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ.أهـ.

المحنة والشدة من أخص معاني الفتنة، وألصقها بأصل مادتها، والمعبرة عن حقيقة ما يلم بنفس العبد..

3-المحنة والشدة:

المحنة والشدة من أخص معاني الفتنة، وألصقها بأصل مادتها، والمعبرة عن حقيقة ما يلم بنفس العبد، ولعل من أبلغ التعبيرات القرآنية في وصف حال العباد حال الابتلاء والفتنة ما جاء في قوله تعالى في سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، ووقوع البلاء بالمؤمنين وبلوغه ذلك التأثير النفسي البليغ الموصوف من قبل رب العالمين بالزلزال الشديد، حيث لا مبالغة من مبالغات البشر، وإنما هو وصف خالق البشر، العليم بذات الصدور، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، إن دل ذلك فإنما يدل على أن هذه المحنة والشدة من لوازم البلاء والفتنة، وإلا لنجى المؤمنون من ذلك؛ وقد على ذات المعنى بصريح العبارة قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

وتوطين العبد نفسه على ذلك من أهم أسباب ثباته وزيادة إيمانه، وهو حال الصحابة الكرام، حين تلقوا هذه الآيات، واستقرت معانيها في صدورهم، وواجهوا بها مواطن الشدة والمحنة، قال الله تعالى واصفًا حالهم: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

قال الإمام الطبري (7/405): 

“فزادهم إيمانًا”، يقول: فزادهم ذلك من تخويف من خوَّفهم أمرَ أبي سفيان وأصحابه من المشركين، يقينًا إلى يقينهم، وتصديقًا لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم، ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه، ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا = ثقة بالله وتوكلا عليه، إذ خوَّفهم من خوفَّهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين =”حسبنا الله ونعم الوكيل”، يعني بقوله:”حسبنا الله”، كفانا الله، يعني: يكفينا الله = (1) “ونعم الوكيل”، يقول: ونعم المولى لمن وليَه وكفَله.

وإنما وصف تعالى نفسه بذلك، لأن”الوكيل”، في كلام العرب، هو المسنَد إليه القيام بأمر من أسنِد إليه القيام بأمره. فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآيات، قد كانوا فوَّضوا أمرهم إلى الله، ووثِقوا به، وأسندوا ذلك إليه، وصف نفسه بقيامه لهم بذلك، وتفويضِهم أمرهم إليه بالوكالة فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم.

وهذا التمييز في الصفوف بعد الالتباس، وثبات الصادقين بعد الاضطراب، وصفاء القلوب بعد ما لاقت من شدة ومحنة، هو الخير السامي الصافي، ومن سموه أنه لا يوصل إليه إلا بعد معاناة مشقة الصعود..

4-الاختبار والتمييز:

وهذا هو جماع معنى الفتنة والغاية من وراءها: اختبار الناس وتمييز صفوفهم، وكل ما يلاقيه العبد يهون من أجل هذه الغاية، فبالاختبار يتميز الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، قال تعالى: { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } [آل عمران: 179]، وهذا التمييز في الصفوف بعد الالتباس، وثبات الصادقين بعد الاضطراب، وصفاء القلوب بعد ما لاقت من شدة ومحنة، هو الخير السامي الصافي، ومن سموه أنه لا يوصل إليه إلا بعد معاناة مشقة الصعود، ومن صفاءه أنه لا يخلص من كدر الشوائب إلا بعد الحرق بالنار، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.

5-العاقبة والجزاء:

إذا حصل التمييز حل الجزاء، ألم يقل الله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، قال الإمام ابن كثير: { لَوْ تَزَيَّلُوا } أي: لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي: لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلا ذريعا.

وقد جاء في الكتاب العزيز استعمال الفتنة في ما يقع بسببها من جزاء كما في قول الله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ}، قال الإمام الطبري (22/404): ويعني بقوله ( فِتْنَتَكُمْ ): عذابكم وحريقكم.

وقال الإمام القرطبي: قوله تعالى: (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي يقال لهم ذوقوا عذابكم، قاله ابن زيد. مجاهد: حريقكم. ابن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء: أي عذابكم (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) في الدنيا. وقال: (هذَا) ولم يقل هذه، لأن الفتنة هنا بمعنى العذاب.

وشتان بين جزاء المؤمنين وجزاء الظالمين، وكل مسطر في الكتاب، منبه عليه ذكرى لأولي الألباب، ففي جزاء المؤمنين يظهر فضل الرحمن الرحيم، وفي جزاء الظالمين يظهر عدل رب العالمين، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }.

وإن كانت الفتنة قد تطلق لغة على ما يقع بين الناس من الحرب والقتال، لكنها في الشرع ليست على إطلاقها؛ فإن الله فرض القتال على المؤمنين لدفع الفتنة الحقيقية، وهي الكفر والشرك بالله..

وإذا كانت هذه هي معالم فتنة الله لعباده، تتبدى فيها صفات الكمال ونعوت الجلال، فإن الفتنة متى ما صدرت من الإنسان بغير أمر الله، فإنها موصومة بجهله وظلمه، ولذلك فهي مذموم دومًا، مأمور بمدافعتها؛ مما يستوجب على العبد استحضار ذلك الأصل الأصيل، وهو أن آيات القرآن قد صاغت مفهومًا شرعيًا للفتنة الصادرة من الإنسان مداره على الإضلال وإمالة العباد عن القصد، وإيقاعهم في أوحال المعاصي وظلمات الظلم، وأعظم ذلك جرمًا وأشده فحشًا: السعي في إخراج المؤمنين عن إيمانهم بالله العظيم إلى الكفر، والتوسل إلى ذلك بمكر الليل والنهار، والتنكيل بالمؤمنين الأطهار.

وهذا المفهوم الشرعي وإن كان ينطلق من الاستعمالات اللغوية، إلا أنه مخصص لها، بما يظهر ميزان الشرع؛ فإذا كانت الفتنة قد تطلق لغة على اختلاف الآراء، فإن الشرع لا يجعل من كل اختلاف في الرأي فتنة بالمعنى الشرعي المذموم، وإنما تلك الآراء التي تصادم الشرع وتميل العباد عن القصد، وتوقعهم في قلوبهم الريب والشكوك في دينهم.

وإن كانت الفتنة قد تطلق لغة على ما يقع بين الناس من الحرب والقتال، لكنها في الشرع ليست على إطلاقها؛ فإن الله فرض القتال على المؤمنين لدفع الفتنة الحقيقية، وهي الكفر والشرك بالله، قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }، قال الإمام الطبري في تفسيره (13/537): يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: وإن يعد هؤلاء لحربك، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له.

كما جعل الله من التدافع سنة ماضية للحيلولة دون وقوع الفساد بالأرض، قال الله تعالى: { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }، وأوجب على المؤمنين نصرة إخوانهم في مقابل الكافرين، وإلا وقعت الفتنة وحل الفساد، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ }.

أما فتنة العبد غيره وسعيه في إضلال العباد فتلك هي الجريمة الشنعاء، وأعظمها على الإطلاق فتنة أولياء الله من المؤمنين، وتعذيبهم وإلحاق صنوف الأذى بهم رغبة في ردهم عن دينهم الحق..

وجدير بالذكر أن القرآن نبه على أن أول مفتون هو الإنسان نفسه، وإن خفي عليه ذلك في الدنيا فلا يخفى عليه في الآخرة، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ }.

قال الإمام القرطبي: (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي استعملتموها في الفتنة. وقال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق. وقيل: بالمعاصي، قاله أبو سنان. وقيل: بالشهوات واللذات.

فالعبد يفتن نفسه حين يرخي لها العنان فتتعاطى الشهوات واللذات فيما حرم الله، ويقتحم حدود الله، فيهلكها إذ عرض نفسه لما لا تطيق من عذاب الله وسخطه.

أما فتنة العبد غيره وسعيه في إضلال العباد فتلك هي الجريمة الشنعاء، وأعظمها على الإطلاق فتنة أولياء الله من المؤمنين، وتعذيبهم وإلحاق صنوف الأذى بهم رغبة في ردهم عن دينهم الحق؛ فما أحقر ذلك المجرم إذ يتطاول على من اختارهم الله لنفسه، وقربهم إلى كنفه، وأدخلهم في ذمته، وتوعد من يتعرض إليهم؛ من أجل ذلك أمر الله بمدافعة أولئك المجرمين ورفع أيديهم عن عباد الله المؤمنين، ولو أزهقت دون ذلك الأرواح، فدون خسارة الدين تهون خسارة الدنيا، ولذلك نصب الله ميزانه، فقال عز من قائل: { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}، قال الإمام الطبري في تفسيره (3/565): قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:”والفتنة أشد من القتل”، والشرك بالله أشدُّ من القتل.

فإذا ثبت هذا لم يجز لأحد أن يتقدم بين يدي الله ورسوله، فيجعل القتل أشد من الشرك، ويجعل التدافع الذي أمر الله به هو الفتنة، ويجعل من الشرك والكفر وفتنة المؤمنين عن دينهم حوادث فردية يجب التغاضي عنها درءًا للفتنة المزعومة.

ولا يجوز بأي حال من الأحوال توظيف لفظ الفتنة –وهو من الألفاظ الشرعية كما سبق- لترويج موقف الاعتزال تجاه بعض الأحداث السياسية، واتهام من لم يأخذ هذا الموقف بأنه مستشرف للفتنة…

وليعلم كل إنسان شهد الفتنة أنه مفتون بها؛ فمن كان سبب من أسبابها، وتلوثت يده بأوضارها، فليعلم أنه قد فتن نفسه وأضل غيره، وباع دينه بعرض من الدنيا حقير فما أبخس البيع، قد رضي لنفسه بغير وصف المسلم، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، فيا عجبًا لمن أهلك نفسه؛ إذ عرضها لحرب الملك الجبار، القائل في الحديث القدسي: (من عادى لي وليًا فقد آذنته بحرب).

ومن لم يكن سبب فيها، فهو مختبر وممتحن بها، مأمور بواجب النصرة والذب عن حياض الدين، والدفاع عن أولياء رب العالمين، وليميز ببصيرة المؤمن ما التبس على الناس، وليطمئن قلبه بكلام ربه حين يضطرب الناس، وإذا اشتدت المحنة وزلزل فليعلم أن النصر قد اقترب فليصبر نفسه وليلزم صف جند الله المفلحين، وليطلب المدد من القوي العزيز، وليفوض أمره إلى العليم الخبير؛ فإنه الاختبار والتمييز، ومن ثم العاقبة والجزاء.. {لِلَّهِ الأمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

ولا يجوز بأي حال من الأحوال توظيف لفظ الفتنة –وهو من الألفاظ الشرعية كما سبق- لترويج موقف الاعتزال تجاه بعض الأحداث السياسية، واتهام من لم يأخذ هذا الموقف بأنه مستشرف للفتنة؛ فإن الاعتزال إنما هو الواجب الشرعي على من لم يتبين له الحق من الباطل، أما من بان له الحق لم يجز له التخاذل عن نصرته، وإلا كان اعتزاله هو السقوط في الفتنة.

اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه…


التعليقات