حتى تبيع مصر أعضاءها!!

في طوفان الأزمات الاقتصادية للطبقات الفقيرة والمتوسطة ظهرت بعض الحلول التي لم تكن معروفة من قبل، لا سيما في ظل تقدم علمي طبي لا ينظر إلى الإنسان – الإنسان المجرد – باعتباره هدف أو محل الرفاهية العلمية، والمقصود أصالة بهذا التقدم، فأضحى التقدم العلمي الطبي انتقائي لمن يدفع، وهذا في ذاته جريمة، لكن الجريمة لم تتوقف عند هذا الحد، أعني حد النظر السلبي للفئات الفقيرة أو التي لا تستطيع سداد الخدمات الطبية، أي عدم استفادتها أو تمتعها بهذا التقدم الطبي والتقني الهائل؛ بل امتد هذا التقدم الطبي المزيف إلى الفقراء بالنهش في أجسادهم المستسلمة للأزمات الاقتصادية.

وفي الحقيقة فإن الدول تُشْبِه الأفراد إلى حدٍّ كبير، فأكثر القوانين التي يمكن أن تسري وتنجح في حق الأفراد يمكن كذلك أن تنجح في حق الدول والجماعات..

فبالرغم من التقدم العلمي الطبي إلا أن الكثير من المطلوب لا يمكن أن يوفره هذا التقدم مستقلا عن استغلال الطبقات الأكثر فقرا، فظهرت (تجارة الأعضاء)، بحيث يُمَكِّن التقدم العلمي الطبي من سرقة أعضاء الفقير بالضغط الاقتصادي عليه ليبيع أجزاء من جسده لمن يستطيع أن يدفع، فظهر أن التقدم العلمي الطبي وبال على الطبقات الأكثر فقرًا، فلولا هذا التقدم الطبي ما ظهرت فكرة نقل الأعضاء وزرع الأعضاء ونحوها من مصطلحات السرقة والاستغلال، وكذلك لولا السياسات الاقتصادية المتوحشة ما ظهرت الطبقة الأكثر فقرًا وعوزًا التي يمكن الضغط عليها لتقدم أجزاء من أجسادها لمن يدفع، فظهر أن الوصول إلى هذه الغاية يستلزم سياسة اقتصادية متوحشة، يعانقها تقدمًا علميًا مُزيفًا وموجَّهًا!

وفي الحقيقة فإن الدول تُشْبِه الأفراد إلى حدٍّ كبير، فأكثر القوانين التي يمكن أن تسري وتنجح في حق الأفراد يمكن كذلك أن تنجح في حق الدول والجماعات، فحتى تتمكن الشركات الأمريكية من السيطرة على غابات الأمازون في الإكوادور، والتي يُعتقد أن بها احتياطيات نفطية قد تنافس منطقة الشرق الأوسط، أو على الأقل تأخذ حصة لا بأس بها عالميًا تم إجبار الإكوادور على بيع أعضائها! عفوًا .. على بيع غاباتها للشركات الأمريكية، فيذكر جون بيركنز صاحب كتاب الاغتيال الاقتصادي للأمم أنه تَوصَّلَ هو ومجموعته التي تعمل بتوجيه من المخابرات الأمريكية وتمويلها أنه يجب إجبار الإكوادور على تسليم تلك الغابات للشركات الأمريكية، وخلال ثلاثة عقود من عمل بيركنز ومجموعته ارتفع حد الفقر في الإكوادور من 50% إلى 70% من عدد سكان الإكوادور، وازدادت نسبة البطالة من 15% إلى 70%، وارتفع الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، ومن ثَمَّ قامت الإكوادور بتخصيص 50% من دخلها لسداد فوائد وأقساط الديون!

ولم يتوقف الأمر عند ذلك؛ بل ازداد الضغط والإفقار حتى أصبح الحل الوحيد للإكوادور أن تقوم ببيع غاباتها إلى شركات البترول الأمريكية، ولأن الدولة في موقف ضعيف فقد تم الاتفاق على تقسيم عائدات البترول الذي يستخرج من تلك الغابات على نحو أن كل 100 دولار تحصل الشركات الأمريكية على 75 دولار، بينما تحصل الإكوادور على 25 دولارا!! على أن هذه الدولارات الخمس وعشرين لن تذهب إلى التنمية، بل يتم اقتطاع 75% منها لسداد فوائد وأقساط الديون، وعلى هذا فلن يتبقى للصحة والتعليم وبرامج الخدمات والتنمية إلا 2.5 دولار فقط!!

إن معضلة مصر الحالية تتمثل في هذه الصورة من أجل بيعها (لأعضائها) قطعة وراء قطعة، دون أن يكون هناك مردود ولو مؤقت لهذا البيع..

إن المثال السابق يفترض التآمر لتركيع الدولة حتى تتنازل عن سيادتها ومواردها، كما هو الحال في محاولة تركيع الفرد للتنازل عن أعضائه، لكن الحال في النموذج المصري قد يكون مختلفًا ومُفزعًا، فما قولك إذا استطاعت الشركات الأمريكية اتخاذ القرار داخل الإكوادور بدلا عن أهل البلد وأصحابها، أي أن المؤامرة لا تتوقف فقط على الضغط على أهل البلد الذين قد يضطرون لما لا يقبلونه، بل يمتد إلى اتخاذ تلك الشركات القرارات بالنيابة عن أهل الإكوادور؟!!

إن معضلة مصر الحالية تتمثل في هذه الصورة من أجل بيعها (لأعضائها) قطعة وراء قطعة، دون أن يكون هناك مردود ولو مؤقت لهذا البيع، فالديون تتضاعف بشكل مخيف، والاقتراض يسير بوتيرة متسارعة ودون رَوِيَّة أو دراسة، وتوجيه الموارد يتم فيما لا ينفع ولا يعود على الدولة أو الأفراد، بل يتم دفنها في قنوات وصحراوات وأمور شكلية لا علاقة لها بالتنمية، فضلا عن غض الطرف عن القضايا الاستراتيجية الكبرى، كقضايا المياه، وفي نفس الوقت يتم الضغط على الفرد بكل قسوة حتى يكفر بأي أمل للتنمية أو تعديل المسار، ويضطر أن يكون جزءً من منظومة الفساد، فضلا عن تخويف أي رأس مال من الاشتراك في التنمية، اللهم إلا فئة المؤسسة العسكرية التي تريد السيطرة على جميع الأدوات الاقتصادية، كبيرها وصغيرها، وليس فقط الأمور الاستراتيجية كما كانت سياسة العسكر في السابق.

ويضاف إلى كل هذا: الشكوك الكبيرة التي تصل إلى غلبة الظن من أن المشهد يُدار بالنيابة عن أهل مصر بعد تصعيد أفراخ من يريد العبث بها إلى رأس السلطة، فأصبح العدو هو من يضغط من الخارج، ويتخذ القرار من الداخل، فوقعت مصر بين رحايا تقوم بالسحق والتقطيع والتمزيق للجسد المصري بمعدل غير مسبوق، فتضطر إلى بيع ما يسقط من الرحايا من أشلاء، وذرات مسحوق الجسد المصري بأبخس الأثمان، أو بغير ثمن، والبيع في ذاته جريمة، فكيف بمن يبيع الثمين بلا ثمن؟!!

إنها الكارثة التي تتحقق فصولها يوميا، وإن لم يتم التدارك فلن نجد من الجسد المصري إلا هيكل في متحف للديناصورات، يخبرنا أن في هذا المكان كانت تحيا دولة عظيمة، لكنها انقرضت، وسُحقت عظامها، فاضطررنا أن نجمع ما وجدناه من حفريات واستكملنا الهيكل بعظام تم تصنيعها في شركة يهودية تحمل العلم الأمريكي!!


التعليقات