هل انتشر الإسلام بالسيف أم بالأخلاق؟ (1)

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، الله خير مما يشركون، وبعد:

فإن الحديث عن الجهاد يشمل عدة مباحث وفصول وأبواب، ولا نستطيع أن نتكلم عنها في مثل هذه المُحاضرات، ومثل هذه اللقاءات، لكننا سنركز الحديث حول هذا العنوان، وهو (الدور الذي لعبه الجهاد في نشر رسالة الإسلام، وعلاقة ذلك بالغاية من تشريع الجهاد)، حتى هذا المبحث لا نستطيع أن نوفيه حقه في هذه المحاضرة، لكنها ستكون إشارات على هذا الطريق.

ثم بعد ذلك إن كان هناك أمر يحتاج إلى توضيح نتكلم عنه، أثناء الجواب على الأسئلة بإذن الله تبارك وتعالى.

في هذا المقال نُجيب بعون الله على التساؤل المشهور المُتكرر: هل انتشر الإسلام في أنحاء المعمورة بالسيف والقوة؟ الأجوبة الضعيفة.

حيث إنه سؤال يحمل في طياته اتهامًا وتشويهًا لهذا الدين أولًا، ويُريد وسمَه بأنه دين القتل وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ثم يحمل اتهامًا وتشويهًا لحملة هذا الدين بدايةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرورًا بصحابته الكرام، والأئمة الأعلام، وصولًا إلى أهل الإسلام في كل زمانٍ ومكان.

وحيث أن خبث السؤال يبدأ بوضع المجيب عنه في قفص الاتهام، فإنني أرفض الجواب عنه من هذا المكان الذي يريد خصمي أن يضعني فيه، وقد وجدت عامة من قبلوا الجواب من هذا الموضع قد خرجوا بما فحواه: أن الإسلام دين ضعيف هزيل لا يعرف للقوة سبيلًا ولا لحمل السلاح طريقًا!! حتى إنني قرأت كتابًا كاملًا في السيرة النبوية يؤصل لكون رسالة الإسلام سلمية من بدايتها إلى نهايتها.

ليس عجيبًا أن يخرج هذا السؤال أو أن يصدر من أعداء الدين؛ لكن العجيب هو ما يقوم به بعض دُعاة المسلمين حينما يشعرون بالتُهمة عند سماع هذا السؤال، فبدلًا من أن يلبسوا لباس العزة والافتخار تراهم يلبسون لباس الهزيمة والانكسار.

الأخلاق قد تؤثر في الرجل والرجلين أو جماعة قليلة من الناس، لكن العامة والجماهير المُتكاثرة لا تُغير دينها ومعتقدها بمثل هذا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا، ورغم ذلك كَفَر به عامة قومه، وكذبوه..

كان الواجب على هؤلاء العلماء والدعاة ألا يقبلوا ابتداءً أن يكونوا في قفص الاتهام، لأن قبولهم يعني أن الجواب سيكون ضعيفًا هزيلًا، لأنه ليس من الموضع الصحيح، فيكون الجواب: أبدًا، لم ينتشر الإسلام بالسيف ولا بالقوة، بل انتشر بسبب حسن معاملة المسلمين لغيرهم، عبر القوافل التجارية وأشباهها.

وهذا في الحقيقة هروبٌ من الجواب الحقيقي؛ فالمسلم الذي يفخر ويعتز بدينه فضلًا عن الداعية أو عن العالم أو الشيخ، لن يكون جوابه بهذا الاختزال؛ لأن القوافل التجارية كان لها أثر لا يُنكر في إبراز أخلاق الإسلام، خاصةً مع اشتهار التجار المسلمين بالصدق والأمانة وحسن الخُلق، لكن هذا لا يكفي لانتشار الدين واعتناق الناس إياه.

هل الأخلاق وحدها كافية؟!

الأخلاق قد تؤثر في الرجل والرجلين أو جماعة قليلة من الناس، لكن العامة والجماهير المُتكاثرة لا تُغير دينها ومعتقدها بمثل هذا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقًا، ورغم ذلك كَفَر به عامة قومه، وكذبوه، وهو المعروف بينهم عليه الصلاة والسلام بالصادق الأمين، وما آمن من أهل مكة إلا القليل، وكان حسن الخلق صفة ملازمة للأنبياء والرسل جميعًا، ورغم ذلك “يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل ويأتي النبي ومعه الرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد).

وترى في المقابل قول الله تبارك وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُوَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}؛ يعني بعد النصر وبعد الفتح يدخل الناس في دين الله أفواجًا، وهذا ما حصل بالضبط مع أهل مكة، رغم أن أغلبهم وعامتهم كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته، إلا أن الأمر انعكس تمامًا بعد الفتح، ودخل عامة أهل مكة في دين الإسلام.

وما ولدتُ أنا في مصر مسلمًا ولا أنتم في بلادكم إلا بفضل الله تبارك وتعالى ثم هذه الفتوحات العظيمة التي جابت مشارق الأرض ومغاربها، وقبور الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شاهدةٌ على ذلك..

بل إن مصر وبلاد المغرب دليل واضح على ذلك، حيث استغرق فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرابة أربع سنوات، أمّا المغرب.. فقد زادت مُدة الفتوحات فيها عن نصف قرن من الزمان، حتى تم تخليصها من البيزنطيين، ودخل أهلها في دين الإسلام، ومن المعلوم أن ثلاثة من القادة المشاهير قد تناوبوا في هذه المعارك وهذه الفتوحات في بلاد المغرب العربي؛ عقبة بن نافع الصحابي الجليل رضي الله عنه، وبعده حسان بن النعمان، وتلاه موسى بن نُصير، واستمرت الفتوحات بعد ذلك حتى طارق بن زياد الذي دخل بلاد الأندلس شمالًا وعبر المضيق، وتحول سُكان هذه البلاد من دياناتهم الأصلية، وكان أغلبها النصرانية وكان فيهم بعض اليهود، تحولوا من ديانتهم التي كانوا عليها، ودخلوا في دين الله تبارك وتعالى (الإسلام).

وما ولدتُ أنا في مصر مسلمًا ولا أنتم في بلادكم إلا بفضل الله تبارك وتعالى ثم هذه الفتوحات العظيمة التي جابت مشارق الأرض ومغاربها، وقبور الصحابة رضوان الله تعالى عليهم شاهدةٌ على ذلك، فعامة الصحابة لم يدفنوا في المدينة، التي كانوا فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إنك تجد أسماء مشاهير: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قبره في القسطنطينية (إسطنبول)، خالد بن الوليد قبره في الشام أو بالتحديد في مدينة حِمص، عقبة بن نافع المشهور أنه دُفن في الجزائر، وفي مصر عمرو بن العاص، وغيرهم.

إذا أردنا أن نُجيب على هذا التساؤل فنُجيب بكل عزةٍ وافتخار أن الإسلام لم يصل إلينا إلا عبر رفع راية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وعبر هذه الفتوحات؛ فما قامت حضارة من الحضارات إلا بوجود قوات عسكرية تقوم برفع رايتها، تتحرك لنشر أفكارها وثقافتها وإقناع الناس بما فيها.

فنحن نتأثر بأخلاق وسلوكيات وأفكار الأوروبيين أكثر من تأثرنا بأخلاق وسلوكيات وأفكار وعقائد الصينيين واليابانيين والروس، وأكثر المرتدين عن الإسلام في بلادنا يتجهون إلى الإلحاد على الطريقة الغربية أو إلى المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية (الغربية) ولا يتجهون إلى البوذية أو الكونفوشيوسية أو الأرثوذكسية أو الهندوسية.

إذن.. كيف نفسر انتشار الإسلام في بلاد لم تصلها جيوش الفتح؟

نعم، انتشر الإسلام في بلاد واسعة لم تصلها جيوش الفتح، بل إن المؤرخ المعروف د. حسين مؤنس يقول بأن ثلث عالم الإسلام فقط هو الذي وصلت إليه الجيوش وبقية الثلثين إنما فتحها الإسلام بهذا الانتشار الدعوي والأخلاقي وعبر قوافل التجار ونحوه.

لكن الشيء المهم الذي لا بد من إضافته بعد كلام د. مؤنس هو أن هؤلاء التجار وهذه الحالة الدعوية لو لم تكن مستندة إلى دولة إسلامية قوية وواسعة تمثل القوة العظمى العالمية وقتها لم يكن ليكون لها نفس هذا الأثر الواسع في نفوس الناس.

لولا هذا الثلث المفتوح بالقوة والذي تكونت به دولة إسلامية قوية ما كان سيكون لهؤلاء التجار نفس الألق والتأثير في الناس.. إنما استمدت أخلاقهم تأثيرها مضاعفا لكونهم ينتمون إلى حضارة قوية ودين كبير ودولة عظمى!

أي أنه لولا الثلث المفتوح بالجهاد لم يكن للثلثين الآخريْن أن يُفتحا بمجرد الدعوة والأخلاق.

ونحن في أيامنا هذه نرى هذا واقعا في حياتنا، فنحن نتأثر بأخلاق وسلوكيات وأفكار الأوروبيين أكثر من تأثرنا بأخلاق وسلوكيات وأفكار وعقائد الصينيين واليابانيين والروس، وأكثر المرتدين عن الإسلام في بلادنا يتجهون إلى الإلحاد على الطريقة الغربية أو إلى المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية (الغربية) ولا يتجهون إلى البوذية أو الكونفوشيوسية أو الأرثوذكسية أو الهندوسية.

فالجهاد لم يتم تشريعه في مرحلة واحدة أو بأمرٍ واحدٍ، بل حصل ذلك عبر مراحل فصلها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب “زاد المعاد” بأنها أربعة..

مراحل تشريع الجهاد

نريد أن نرجع إلى الوراء بعض الشيء حتى ننظر إلى مراحل تشريع الجهاد، فالجهاد لم يتم تشريعه في مرحلة واحدة أو بأمرٍ واحدٍ، بل حصل ذلك عبر مراحل فصلها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب “زاد المعاد” بأنها أربعة، وتقريبًا كل المذاهب الفقهية قد أشاروا في الجُملة إلى أن الجهاد قد شُرع عبر مراحل.

كانت المرحلة الأولى التي أشار الله عز وجل إليها بقوله: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لم أُؤمر بقتال)، حيث حال المسلمين في مكة والاستضعاف الشديد وعدم القدرة على المواجهة، وهناك أسباب أخرى كثيرة ذكرها العلماء والمفسرون في سبب أمر الله تبارك وتعالى للفئة المؤمنة في هذا الوقت بأنهم لا يرفعوا سيفًا ولا يحملوا سلاحًا.

واستمرت مرحلة كف الأيدي وعدم حمل السلاح إلى أن وصل أهل مكة لحد التآمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحاولة قتله وتفرقة دمه بين القبائل، فهاجر النبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون جميعًا، واستقر هو وأصحابه في المدينة، وهنا بدأت المرحلة الثانية من تشريع الجهاد، لكنه لم يبدأ بالأمر، إنما بدأ بجواز الدفع {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}.

وهنا كان مجرد إذن من الله عز وجل لهم بأنهم مظلومون ولهم حق الدفاع عن أنفسهم، لكن الأمر لم يكن على الوجوب آنذاك، كان فقط مجرد إذن. بعد ذلك نزل الأمر بالقتال، بعدما كان مجرد إذن أصبح مأمورًا به وأصبح الدفعُ واجبًا، وهذا ما يُسمى في كتب المسلمين بجهاد الدفع.

والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت لم يُقاتل أهل المدينة –وإن كان فيهم الكثير من الكفار- كان فيهم يهود وكان فيهم من مازال على عبادة الأوثان، وهذا استدل به ابن تيمية رحمه الله على أن هذه المرحلة كانت مرحلة مُقاتلة الذين يعتدون فقط، لكن من لم يبدأ باعتداءٍ على المسلمين فلم يكن هناك أمرٌ بمقاتلتهم، بل لم يكن ذلك جائزًا في هذا الوقت، وهو ما ظهر بوضوح في بدر وأُحُد والخندق.

هذه المراحل الثلاثة كانت في البداية، ثم بعد ذلك كانت المرحلة الرابعة، والتي سمّاها العلماء (جهاد الطلب)، وهي المرحلة الأخيرة التي شُرع فيها للمسلمين الذهاب إلى الكُفار والمشركين في بلادهم، ودعوتهم إلا الإسلام، فإن أبوا أن يدخلوا في الإسلام دفعوا الجزية، وإن أبوا يكون القتال، وهذا هو الظاهر في قول الله تبارك وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.

وهنا يُطرح تساؤل آخر مهم: ما هي الغاية من تشريع الجهاد؟

الجواب: الغاية من تشريع الجهاد هي نفس الغاية من ابتداء الخلق، وهي تحقيق العبودية الكاملة لله تبارك وتعالى في كونه، والأدلة كثيرة جدًا على أن غاية هذا الجهاد الأكبر هو تعبيد الناس لله عز وجل وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض، وإخلاء العالم من الفساد.

من أظهرها قول الله عز وجل –كما في سورة البقرة-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}، وفي آية الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

قال ابن كثير رحمه الله: ثم أمر تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة؛ أي شرك، يعني حتى لا يكون شرك، قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع وغيرهم…قال ابن كثير: ويكون الدين لله أي يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان. اهـ وقال ابن جرير الطبري: فقاتلوهم حتى لا يكون شركٌ، ولا يُعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو الفتنة، ويكون الدين كله لله وحتى تكون الطاعة والعبادة كُلها لله خالصةً دون غيره. اهـ

وقال الإمام الشوكاني رحمه الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية، وهي ألا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المُخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يَحِلّ قتاله. اهـ

وفي صحيح البخاري قصة مشهورة واضحة للدلالة على هذا، فيها قال المُغيرة بن شعبة الصحابي الجليل لعامل كسرى: أمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نُقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية. وهذا الحديث ظاهر في هذا الأمر الذي نعنيه وهو أن الغاية من الجهاد هي تعبيد الناس لرب العباد سبحانه وتعالى، وأثر ربعي بن عامر المشهور: ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

إن الدولة الإسلامية توسعت بالسيف والقوة كما توسعت كل الدول، لكن الإسلام لم ينتشر بالإكراه، حيث كان السيف يزيل الأنظمة الحاكمة القاهرة التي استعبدت الناس وأذلّتهم وحكمتهم بالعنف والعسف..

لكن هل يعني هذا إكراه الناس على الدخول في الإسلام؟ هل شرع الله عز وجل الجهاد من أجل إكراه الناس على الدخول في الإسلام؟ الجواب: بالطبع لا، فالإسلام لا يقبل إلا من دخل في الدين مُخلصًا صادقًا شاهدًا بشهادة الحق برضا كاملٍ عن هذا الدين؛ الإسلام لا يريد وجود المنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، وإن كان يقبل منهم خضوعهم الظاهر للدين وتشريعاته.

فإذا أردنا أن نختصر المسألة كلها فنقول بوضوح: إن الدولة الإسلامية توسعت بالسيف والقوة كما توسعت كل الدول، لكن الإسلام لم ينتشر بالإكراه، حيث كان السيف يزيل الأنظمة الحاكمة القاهرة التي استعبدت الناس وأذلّتهم وحكمتهم بالعنف والعسف، ولم يكن السيف يفرض الإسلام على أحد، وقد عجز المؤرخون المتعصبون ضد الإسلام عن رصد حالات إجبار لغير المسلمين على اعتناق الإسلام. بل إن بقاء كافة الأديان القديمة في بلاد الإسلام حتى اليوم هو أهم وأكبر الأدلة على هذا. بينما أوروبا نفسها لم تحتمل وجود مسلمين فيها فأقامت محاكم التفتيش وعمليات الطرد والإبادة منذ إسبانيا في القرن السادس عشر وحتى القرن العشرين (بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية، ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عند أواخر القرن العشرين).

والمعنى الصحيح هو: أن الجهاد شُرع لإزالة الموانع والعوائق التي تحول بين الناس وبين معرفة الإسلام على حقيقته –كما قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة-: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ}، وآية سورة الكهف كذلك: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.

فلابد أن يظهر الدين ويقيم نظامه، ويتضح للناس بشكلٍ كاملٍ غير منقوص ولا مُشوّه، وكما يظهر للناس عدالته وعفوه وسماحته، كذلك يظهر لهم شدته وقسوته مع المفسدين في الأرض الذين يحاربون الله ورسوله، وهذا لا يتحقق أبدًا إلا في ظل وجود قوة رادعة.

وهذه هي المعاني الظاهرة من هدف جهاد المسلمين حتى تزول العوائق والموانع أمام الناس لمعرفة هذا الدين، ومن ثم الدخول فيه.

ويبقى الحديث عن بروز دور الجهاد في انتشار الدعوة الإسلامية، وعواقب ترك الجهاد، مع الجواب عن التساؤلات؛ نجعله في المقال القادم بإذن الله.

والله من وراء القصد.

المصدر: البوصلة

التعليقات