رؤية للعمل

مع اشتداد موجة الثورات المضادة التي ضربت بلدان الربيع العربي، وتبجح الأنظمة الاستبدادية ببلاد العالم الإسلامي في ممارسة المزيد من تبديد الثروات، وتدمير المقدرات، والبطش بكل من يعترض على سياساتها. صار أبرز سؤال يطرحه المهتمون بأمر الأمة ما العمل؟ وماذا نفعل؟!.

وسبق في عدة مقالات أن تناولت مفردات تشكل رؤية للعمل في الواقع الحالي، وفي هذا المقال سأجمع المحاور الأساسية لتلك الرؤية بحيث تكون واضحة في ذهن القارئ…وتلك المحاور هي:

  1. صناعة الوعي.
  2. التطوير الذاتي والمبادرة الفردية.
  3. تنسيق وتوحيد الجهود لا الجماعات.

١- صناعة الوعي:

إن هذا الوعي يمكن أن نواصل صناعته سواء بأنفسنا عبر الكتابة والنقاشات واللقاءات المباشرة، وتشجيع الأصدقاء والمعارف على قراءة الكتب المفيدة التي تشرح لهم الواقع، وتبين تاريخه وخلفياته وتطوراته. أو عبر غيرنا من خلال دعم الشخصيات الجيدة والواعية

في ظل أجواء التراجع والانكسار تروج أطروحات الاستسلام، فالبعض يرى شراسة الأعداء، والثمن الضخم الذي تدفعه الشعوب المسلمة طلبا للتحرر، فييأس من إمكانية التغيير، ويدعو للاستسلام باعتباره أخف الأضرار. بينما يطرح آخرون أطروحات انسحابية تتمثل في الدعوة للاهتمام بقضايا فلسفية وفكرية بعيدة عن لب المعركة، واعتزال أي صراع مع الأنظمة، فهذا أحفظ للأرواح، وأبعد عن استثارة الخصوم والأعداء.

هذه الأطروحات في الحقيقة تهدر كافة مكتسبات حقبة الربيع العربي، والتي من ضمنها اتضاح خريطة الخصوم، ومكونات الصف الإسلامي نفسه، وواقع الأمة عموما، وانحيازات كل طرف، وأهدافه الحقيقية. ولذا فمن المهم في هذه المرحلة دحض تلك الأطروحات، والحفاظ على الوعي الذي تكون بمشقة وثمن باهظ خلال الأحداث، وتغذيته دائما، ومنع الردة للخلف إلى وضع كنا نثق فيه بخصومنا مثلما كان الموقف في مصر تجاه الجيش قبل الانقلاب، أو نرمز فيه رموزا صُنعت على أعين الأعداء أو تقودنا فيه قيادات متكلسة.

إن هذا الوعي يمكن أن نواصل صناعته سواء بأنفسنا عبر الكتابة والنقاشات واللقاءات المباشرة، وتشجيع الأصدقاء والمعارف على قراءة الكتب المفيدة التي تشرح لهم الواقع، وتبين تاريخه وخلفياته وتطوراته. أو عبر غيرنا من خلال دعم الشخصيات الجيدة والواعية، وذلك بحث الآخرين على القراءة لهم، والتعرف على أفكارهم. إذ نجد غالبا الشخصيات الانتهازية والمتمحورة حول ذاتها تعكف على التصدر وفرض نفسها، بينما الشخصيات الجيدة كثيرا ما تتوارى حرجا وحياء، حتى تعوذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من جلد الفاجر وعجز الثقة.

٢- التطوير الذاتي والمبادرة الفردية:

وهذا يتطلب من المرء أن يطور ذاته، وينمي مهاراته، ثم يختار بعض الثغور الشاغرة، ويسعى لسدها. وهذه الثغور تتنوع تنوعا هائلا مثلما يتنوع الأشخاص وتختلف مهاراتهم.

إن العصر الذي نعيش فيه لم يعد عصر القوى العظمى والدول القوية والجماعات الكبيرة بمفردهم، إنما دخل المشهد لاعبون جدد أصغر لهم القدرة على التأثير بشكل كبير في الأحداث، بل وفرض أمر واقع على الكيانات الأكبر، سواء في الجوانب الاقتصادية أو الإعلامية أو السياسية أو الأمنية والعسكرية.فنحن نعيش في ظل تطورات تقنية، وتراجع في سيطرة الأنظمة القمعية على المجال العام، مما يمكن الافراد من التأثير والفعل مهما كانت إمكاناتهم محدودة، طالما توافرت لديهم الإرادة والعزيمة والإصرار على تقديم شيء نافع.

وهذا يتطلب من المرء أن يطور ذاته، وينمي مهاراته، ثم يختار بعض الثغور الشاغرة، ويسعى لسدها. وهذه الثغور تتنوع تنوعا هائلا مثلما يتنوع الأشخاص وتختلف مهاراتهم. (فهناك من يملك عقلية شمولية تؤهله للرؤية الكلية للمشهد ورسم الاستراتيجيات المحكمة، وهناك من يملك فهما دقيقا وذاكرة قوية تؤهله لأن يكون مشروع عالم في الشريعة يتصدر للإفتاء في النوازل والمستجدات، وهناك من يملك كاريزما وقدرة على الأداء الإعلامي المميز والتأثير في عموم الجماهير، وهناك من يملك سمات تؤهله لأن يكون مربيا ناجحا يشرف على بناء الأفراد وتكوين الكوادر والارتقاء بهم، وهناك من يجيد لغات أجنبية تتيح له ترجمة مجالات لم تترجم للعربية حتى اليوم، مثل علوم الاستخبارات المتنوعة ومكافحة التمرد، وهناك من يملك شغفا هندسيا وقدرة على الابتكار والاختراع لمعدات وأجهزة وبرامج تضيق الفجوة التقنية بيننا وبين الغرب.. وهناك من لا يملك أي ميزة ذاتية عقلية أو علمية ، ولكنه يستطيع أن يفيد النماذج السابقة عبر أمواله أو دوائر علاقاته الواسعة التي تتيح فتح مسارات رعاية وعمل أمام الأصناف السابقة).

٣- توحيد الجهود لا الجماعات:

يبرهن الواقع الحالي على الافتقاد لأي إدارة مركزية تقدم رؤية وتصيغ حلولا للأزمات. بينما الأعداء ينسقون جهودهم على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية ضمن غرف عمليات مشتركة. وهذه المفارقة يمكن حل معضلتها عبر مستويين:

وأحسب أن هذا سيربط بين محور صناعة الوعي، ومحور التطوير الذاتي والمبادرة الفردية، لتقدم المحاور الثلاثة معا رؤية يمكن العمل عبرها فضلا عن تطويرها، للقضاء على حالة التيه والجمود التي تضرب جنبات التيارات الإسلامية حاليا.

الأول:

محور رأسي متعلق بالقيادات الإسلامية ذات الخط التغييري على الجملة، من خلال تنسيق أنشطتها، وتكميل بعضها لبعض، فهناك فئات وشخصيات نخبوية لديها رؤى وأفكار وتصورات متماسكة وجيدة، وهناك فئات أخرى لديها امتدادات مجتمعية وشعبية، وفئات ثالثة لديها إمكانات مالية جيدة، وفئات رابعة لديها خبرات تقنية وعسكرية ..إلخ.

الثاني:

محور أفقي متعلق بعموم الأفراد، ويجري خلاله تأسيس أعمال مشتركة بين عناصر التيار الإسلامي لا تعتمد على البعد الفئوي أو الانتماء التنظيمي، وتهدف لتحفيز الأدوار الفردية والجماعية الصغيرة لمواجهة غياب المركزية. وبالتوازي مع العمل على بناء مركزيات داعمة، وتصدير رموز في مناطق الشتات المختلفة لمواجهة حملات الاستئصال، وتجفيف المنابع البشرية، وتصفية الرموز التي نتعرض لها بعنف منذ بدء موجة الثورات المضادة.

وأحسب أن هذا سيربط بين محور صناعة الوعي، ومحور التطوير الذاتي والمبادرة الفردية، لتقدم المحاور الثلاثة معا رؤية يمكن العمل عبرها فضلا عن تطويرها، للقضاء على حالة التيه والجمود التي تضرب جنبات التيارات الإسلامية حاليا.

مقالي بالعدد الأخير من مجلة كلمة حق

التعليقات