وأخيراً هدأ العجيج قليلاً

جدلية الاستقامة على منهج الله أو الانحراف عنه ما تزال قائمة كركيزة أساسية في حياتنا لا تنفك تظهر حيناً وتخفى أحياناً، وإنما تظهرها الأحداث والوقائع.

وما انشغال الورى في غالب أحوالهم إلا بظواهر العوارض أو ما يطفو على سطوحها دون الولوج إلى جوهر الظاهرة نفسها، وما ذاك إلا طفولة ماتزال مكنونة في طباع أكثرهم، إذ الظاهريات لا أصالة لها في علاج أمراضهم.

فحب الظهور والصدارة مثلاً يبقيان في نفوس أصحابهما، وعوضاً عن التعبير عنهما بالمساحيق المبهرجة والملابس الخالعة والاصوات المتغنجة؛ فإنها تتمثل في الأوصاف الباهرة للملتزمين الجدد والملابس السابغة المبالغ فيها خاصة مع مفاجاتها والأصوات المرتلة الخاشعة!!

وهذه الجدلية تعري في حقيقتها هشاشة نفسية عند بعض أهل الاستقامة -زعموا- إذ يفرحون بتوبة بعض مشاهير الواقع -الجاهلي غالباً- لتوبتهم وعودتهم إلى طريق الخير، كما تخفي صدورهم أكبر، إذ يشعرون بالإسناد والدعم لما تُكَنُ صدورهم من الشعور بالاستضعاف والمنبوذية وربما في أسوأ احوالهم؛ الشعور بالتعظيم أيضاً لبعض المفردات والبُنيات “المشهورة” في هذا الواقع الفاسد، رغم كونها دلالة على أسوأ مافيه وإلا ما كانت من رموزه وعلاماته، وما ذلك إلا لما ترسب على جنبات نفوس اولئك الهداة المستقيمين -بزعمهم- من رواسب الجاهلية وقيمها الفاسدة المعوجة.

كما تكشف الجدلية عن خواء وظلمة وبرودة الواقع الجاهلي نفسه إذ يفيء كثير من مشاهيره إلى النور والدفئ والعمران في بساتين الهداية، لكسر ملل حياتهم الاولى أو الخروج من رتابتها وكآبتها التي أودت بأرواح كثير منهم إلى الهاوية والهلاك.

ربما فائوا كنوع من التغيير وربما تنسموا عبير الهدى أو تلألأت لهم بعض أنوار الله في نهاية طريقهم الكئيب رغم الحجب والحواجز التي وضعوها بينهم وبينه، لكن الذي لابد من ملاحظته ليست أسباب أوبتهم تلك وإنما طبائعهم التي لا تتحول بالكلية وأمراض نفوسهم وتعاريجها التي لا تستوي مرة واحدة، فيخبو بعضها -رغم وجود جذورها في نفوسهم- وتظهر أخرى رغم تلونها بأصباغ أدوارهم الجديدة.

فحب الظهور والصدارة مثلاً يبقيان في نفوس أصحابهما، وعوضاً عن التعبير عنهما بالمساحيق المبهرجة والملابس الخالعة والاصوات المتغنجة؛ فإنها تتمثل في الأوصاف الباهرة للملتزمين الجدد والملابس السابغة المبالغ فيها خاصة مع مفاجاتها والأصوات المرتلة الخاشعة!!

وربما أقبل أولئك باندفاعة العميان نحو النور إذا أبصروه فلم يوغلوا في طريقهم الجديد برفق، وراموا بلوغ القمة دون روية؛ فسقطوا منها اول ما بلغوها وليتهم ما وصلوا إليها.

فالآلهة نحن نصنعها قبل أن نتعبد إليها، وكان الواجب أن نهدمها ونتقرب إلى الله بإهدارها وإلزامها حدودها التي جعل الله لها.

هم قوم كانوا رؤوس الناس في جاهليتهم افلا يكونون كذلك في هدايتهم؟!

ويدفعهم أهل تلك الهداية دفعاً إلى تصدر مجالسهم وينفخون فيهم نفخ إبليس الغرور حتى يجعلوا منهم بالونات تطير في السماء توشك أن تنفجر بشكة من دبوس صغير أو يحلقون هناك بعيداً نحو العدم والمجهول.

فالآلهة نحن نصنعها قبل أن نتعبد إليها، وكان الواجب أن نهدمها ونتقرب إلى الله بإهدارها وإلزامها حدودها التي جعل الله لها.

هكذا إذن يرسب اهل الاستقامة في أولى اختباراتهم فيجازفون مجازفة بتقديم العائدين من عنابر المرضى ومصحات العدوى؛ كأطباء وحكماء دون نقاهة تذكر، ويقدمون من كان بالأمس فقط من حزب الشيطان ليكون إماماً وقائداً لأهل الله، وأيم الله لو كانوا من اهله وخاصته ما فعلوا.

ونسي أولئك أن طبيعة هذا الدين وهذا الطريق أن من خصائصه ألا يقبل الوساطة ولا يتحاكم إلى معايير الجاهلية وإنما يحاكمها ويحكم عليها، فليس بضروري ان يكون المتصدر هناك هو نفسه المتصدر هنا وبمجرد أن يقرر هو ذلك!!

نعم لسنا أوصياء على منهاج الله ولا نملك بأيدينا مفاتيح الجنة فنفتحها لأحد ولا مغاليق النار فنوصدها عليه، ولكننا سرنا في هذا الطريق الذي نرجوا أن يكون درب الفلاح، ومهدنا وعثائه بأجسادنا وسقيناه بدمائنا وعرقنا، هو طريقنا على أية حال فما نملكه حقاً هو ألا نصدر دليلاً للناس فيه كان هو بالأمس من خصومه وأعدائه أو على الاقل من عوائقه وقطاع الطريق عليه.


التعليقات