المتذبذبون في لحظات المفاصلة

أثار اعتقال نظام السيسي للمستشار هشام جنينة ثم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح حالة من النقاش، وأحيانا التشاحن بين معارضي الانقلاب العسكري بمصر. إذ تعددت زوايا النظر والتقييم لهاتين الحادثتين، فالبعض اعتبرهما من الرموز الوطنية صاحبة التاريخ في رفض الفساد والمطالبة باحترام سيادة القانون. والبعض الآخر اعتبر ما حدث لهما يدخل في باب “من أعان ظالما سلطه الله عليه”، وأنه نتيجة طبيعية مترتبة على دعمهما سابقا لمظاهرات ٣٠ يونيو، ومشاركتهما في الحياة السياسية على أرضية الإقرار برئاسة السيسي ومشروعية نظامه، وصولا لدعم بعض الممارسات القمعية، مثلما برز في تأييد د.أبو الفتوح لعملية الجيش المصري الأخيرة في سيناء، زاعما أنه لا تشوبها مخالفات، وأن السكان راضون عنها، رغم شكاويهم المتعددة من تجاوزات الجيش بحقهم. والبعض الثالث أبدى رفضه لاعتقال الرجلين من منطلق إنساني، مع اعتراضه التام على كثير من مواقفهما السياسية.

هذا التفاوت في التعامل مع حادثتي الاعتقال المذكورتين يكشف في جوهره عن خلاف أعمق وأكثر تعقيدا، يتمثل في موقف الإسلاميين المصريين والمحسوبين عليهم من الدولة القومية ومؤسساتها وأنظمة الحكم العسكري المهيمنة عليها، والمنهج المختار للتعامل معها. ويمكن القول بأن هناك نمطين يعبران عن ذلك:
1- نمط ينظر للدول القومية في المنطقة العربية على أنها من مخلفات عهد الاستعمار، وأن أنظمتها تتسم بـ(حكم القلة، والتبعية للغرب، والحكم دون مساءلة) وفقا لتعبيرات المؤرخ البريطاني روجر أوين. وأن تلك الأنظمة دخيلة على هوية الأمة وحضارتها وعلى منظومة الحكم الخاصة بها، هذه المنظومة التي تقوم ابتداء على مبدأ “السيادة للشريعة والسلطة للأمة”، أي السيادة العليا للشريعة، فتنبثق منها الدساتير والتشريعات، بينما تختص الأمة بحق اختيار ومحاسبة من يحكمها.

وكنتيجة تلقائية لما سبق، يدفع هذا النمط أصحابه لتبني منهج التغيير الجذري، والتدافع مع الأعداء باعتباره سنة الحياة، ففي نظرهم: الدول الكبرى لا تلقي بالا للحقوق المهدرة، والعالم يعيش في غابة يأكل القوي فيها الضعيف وفقا لمبدأ البقاء للأقوى. وفي المحصلة النهائية يقل لدى هذا الفريق الحرص على الاصطفاف مع الخصوم، ويزداد بالمقابل الحرص على سلامة المبادئ والالتصاق بالمواقف الأخلاقية لأنها تمثل رأس المال الذي ينبنى عليه نشاطهم.

2- نمط يقدس الدولة القومية ويحترم مؤسساتها القوية، مهما فعلت من تجاوزات خارج القانون، ومن انقلاب على خيارات الشعب وتنكيل بالأبرياء والمسالمين. ويتبنى أصحاب هذا النمط منهج الإصلاح التدريجي، ويمارسون المعارضة للنظام على أرضية الإقرار بشرعيته، والتحرك في المساحة التي من المفترض أنه يسمح بها. وفي هذا السياق يمكننا تفهم جلوس د.عبد المنعم أبو الفتوح مع الرئيس الانتقالي المزعوم عدلي منصور إثر انقلاب ٢٠١٣، ليبدي اعتراضه على اعتقال بعض الشخصيات العامة والسياسية، كما نتفهم سبب اصطفافه مع الجيش حامي حدود الوطن -على حد وصفه- في حملته ضد الإرهاب المزعوم بسيناء، وتغاضيه عن تهجير الأهالي، وتجريف الأراضي الزراعية، وهدم البيوت والمزارع والتوقيف العشوائي للمواطنين.
وكنتيجة لما سبق، يركز أصحاب هذا النمط على التوافق والاصطفاف مع المخالفين -بالأخص من غير الإسلاميين- مهما كانت درجة خصومتهم لهم، ويعلون من شأن الجماعة الوطنية، ولا يعطون اهتماما كبيرا للمواقف الأخلاقية والمبدئية، فينادون بالديمقراطية ثم ينقلبون عليها بكل سلاسة إن آتت بما يخالف المصالح الوطنية المتوهمة، والتي تعني في حقيقتها مصالح المؤسسات السيادية التي تدير الدولة العميقة.

المتذبذبون
أصحاب منهج التغيير والتدافع سنجدهم مطردين مع أنفسهم في كل المواقف والنوازل، وكذلك أصحاب منهج الإصلاح والتوافق. بينما توجد أزمة واضحة بشكل فج لدى طرف ثالث حشرته الأحداث منذ الانقلاب العسكري حتى اليوم في مساحة ضيقة، فهذا الطرف يتبنى نفسيا وفكريا منهج الإصلاح والتوافق، ولكن العسكر فرضوا عليه أن ينتقل إلى خانة الثورة والمدافعة عن غير قناعة ولا إيمان، ومن ثم تتسم مواقف أصحابه بالتذبذب والتأرجح والتناقض الشديد، فعندما تمعن مؤسسات الدولة في البطش والقمع نجده يندد بها ويتبنى خطابا عدائيا ضدها، وعندما تتعرض تلك المؤسسات لانتكاسات ميدانية نجده يتعاطف معها ويندد بما أصابها. نجده يهاجم أبو الفتوح بشراسة على خلفية خياراته السياسية المعترفة بشرعية السيسي، فإذا تعرض للاعتقال تحول في نظرهم فجأة من غير مقدمات إلى قامة سياسية ورمز وطني.

هؤلاء المتذبذبون يحتاجون إلى حسم خياراتهم وتبني منهج واضح في ظل أجواء المفاصلة الحالية التي لم تعد تترك مساحات رمادية يمكن الاختفاء عبرها. فالمواقف المتذبذبة لا تأتي بخير، إذ يدفع أصحابها ثمنا باهظا لخصومتهم مع الأنظمة القمعية، كما تسقط مشروعيتهم الأخلاقية لتناقضهم، وتقديسهم الضمني لمؤسسات الدولة العميقة التي يزعمون الرغبة في القضاء على هيمنتها ونفوذها.

نقلا عن ” مدونات الجزيرة “


التعليقات