ذكرياتي في يناير مع الضابط القتيل

أثناء وجودي بإحدى زنازين سجن استقبال طرة في يناير ٢٠١٦، إذا بي أسمع في المذياع بيانا لوزارة الداخلية المصرية تنعي فيه “شهيد الواجب مقدم الأمن الوطني أحمد الرفاعي” الذي تُوفي متأثرا بإصابته في حادث انفجار وقع بمنزل في حي الهرم.

مر الخبر مرورا عابرا على بقية رفاق الزنزانة، لكنه مثّل لي الفصل الختامي في قصة عجيبة بدأت منذ رأيت هذا الضابط القتيل أول مرة في يناير ٢٠٠٧، وانتهاء برؤيتي له آخر مرة مطلع يناير ٢٠١١،.  وبين هذين التاريخين كاد أن يقتلني عام ٢٠٠٨.

اللقاء الأول في مكتبه

إثر تخرجي من كلية الهندسة، قدمت أوراقي للعمل بوزارة الكهرباء، ووفقا لما تُسمى بسياسة الإجهاض المبكر التي تعمل على منع تعيين الإسلاميين أو أقاربهم في الأماكن السيادية أو الحساسة، كان لابد أن أمر على فرع جهاز مباحث أمن الدولة لمراجعة بياناتي وبيانات الأقارب حتى الدرجة الرابعة.

وقتها كان لي نشاط محدود في العمل الدعوي، وكنت مجهولا للأجهزة الأمنية، ومن ثم ذهبت مطلع يناير ٢٠٠٧ إلى فرع الجهاز، ودخلت مكتب الضابط المذكور لأجده يشاهد قناة المجد للقرآن، وتبدو عليه سمات الهدوء والتدين، سألني بعض الأسئلة البسيطة لمدة دقيقة فقط، ثم غادرت بعد أن حفرت صورته جيدا في ذهني.

اللقاء الثاني في منزلي

في إحدى ليالي شهر نوفمبر 2008 كنت متجها إلى عملي، وشعرت ببعض الإرهاق، فمررت على صيدلية لأجد درجة حرارتي تبلغ ٣٩ درجة، ومن ثم عدت للمنزل، ولم أذهب للعمل. بعدها بأربع ساعات فقط، وتحديدا في الساعة الثانية ليلا وجدت طرقات قوية على الباب، ومن ثم وجدت حشدا من عناصر الأمن يقودهم ذلك الضابط المذكور الذي دخل المنزل وصال وجال، ثم طلب مني أن أغادر معه.

بدأت التحقيقات ليلة اليوم التالي واستمرت لمدة ١٠ أيام على الأقل، ودارت حول قراءاتي ونشاطي الدعوي بمسجد أقوم فيه بنشاط صيفي مع الأطفال… تولى ضابطان التحقيق معي أحدهما الضابط المذكور، وهو من مارس التعذيب، بينما شاركه زميله في توجيه الأسئلة التي اتسمت بغرابة شديدة من قبيل؛ ما شعورك عندما ترى قتلى الانتفاضة الفلسطينية؟ هل تود أن تسافر إلى فلسطين أو العراق؟ ما الذي تتمنى أن تفعله مستقبلا؟ لماذا تشترك بمجلة البيان الصادرة من لندن؟  لماذا لديك محاضرات للشيخ محمد عبد المقصود على جهاز الكومبيوتر الخاص بك؟

التحقيقات كانت قاسية، إذ بدأت أول ما بدأت بالصعق الكهربائي، الذي ظل بمثابة الورد اليومي طوال عشرة أيام، مع قليل من الضرب، فضلا عن إغراق مكان الاحتجاز بالمياه لمنعي من النوم أو الجلوس.. بمرور الوقت، بدأت أعتاد على الكهرباء رغم أنها ظلت تسبب آلاما مبرحة، بينما السب والشتم فكنت أعتبره موجها لشخص آخر ولا أشغل ذهني به. وكان الموت آنذاك أمنية الأماني، ولكن رحمة الله لم تنقطع، فعندما أوشكت قواي على الانهيار في نهاية جلسة كهرباء استمرت 6 ساعات، حدثت مفاجأة سعيدة، إذ تيبس جسدي وصرت لا أشعر بأي آلام، وبعدها توقفوا تماما عن استعمال الكهرباء.

في نهاية التحقيقات، قال لي الضابط المذكور “أمامي ورقة قذرة، سأضع فيها اسمك، وأعتقلك لمدة لا تقل عن ١٥ عاما لأنك رفضت أن تتكلم، وعندما تخرج من المعتقل سيكون عمرك قد ناهز الأربعين سنة، وستجد رفاقك قد بنوا مستقبلهم، بينما أنت ستعيش حياة مدمرة”.. كلامه هذا أسعدني جدا، وكدت أطير فرحا به، لأنه يعني أن التحقيقات انتهت، والصعق بالكهرباء مضى إلى غير رجعة.

الخروج من المعتقل

لبثت في المعتقل سنة ونصفا، ثم خرجت مطلع أبريل ٢٠١٠، استفدت كثيرا من تلك التجربة على كافة المستويات، إذ قرأت العديد من الكتب، واكتسبت العديد من الصداقات الممتدة عبر أرجاء مصر، ورأيت أجيالا متنوعة من الحركة الإسلامية، استمعت إلى خلاصة الدروس التي خرجوا بها من تجاربهم، فأضفت أعمارا إلى عمري.

عند الخروج من المعتقل، لا بد أن يمر المرء على فرع جهاز أمن الدولة، وهناك رأيت مجددا الضابط المذكور، وقد كنت أخصه مع مبارك ونجليه ووزير داخليته حبيب العادلي بدعوات مستمرة طوال فترة الاعتقال، خصوصا أثناء الصيام وأثناء السجود، وفي كافة مواطن استجابة الدعاء.

عندما رأيته سألته: لم تم اعتقالي؟ فقال لي: وجدنا عندك كتبا على جهاز الكومبيوتر الخاص بك لصلاح الصاوي ومحمد قطب ومحاضرات صوتية لمحمد عبد المقصود… فقلت له: وما الإشكال في ذلك؟ هل تحاسبني على قراءاتي أم على أفكاري وأفعالي؟  فلو بالقراءات فلدي كتب من تأليف شيوعيين، فلم لا تعتبرني شيوعيا؟!

فأجابني قائلا: كتب الصاوي وقطب تتحدث عن أهمية تحكيم الشريعة، وهذا لا إشكال فيه، فكلنا نريد تطبيق الشريعة، ولكنك مستقبلا قد تهتم بموضوع حكم من لم يحكم بما أنزل الله، ثم بعد ذلك قد تتبنى مواجهته وضرورة تغييره، ولذا لا بد أن أقطع الخيط من أوله، وقد كان كلامه محض خطأ فهو لكي يقطع الخيط اعتقلني مع قدامى الإسلاميين من أصحاب الخبرات والمغامرات، أي إنه أوصلني لنهاية الخيط مبكرا!

أما بخصوص محاسبتي على قراءاتي لا أفعالي أو حتى أفكاري، فقد أجابني إجابة مضحكة ضرب خلالها مثالا قائلا: “أنا مسكت معك قطعة حشيش، لا يهمني هل تشربها أم تتاجر فيها، هي قطعة حشيش وخلاص”.


التعليقات