عيد الأضحى.. ولادة الفرحة من رحم الابتلاء

من الأمور العجيبة في ديننا أن شعيرة الحج التي فُرِضَت على المسلمين متأخرا، لم تؤثر على بقاء اسم عيد الأضحى كما هو، رغم أن مناسك الحج العظيمة تؤدى خلال أيام هذا العيد!! وبقي الاسم مرتبطا بحدث حصل مع أنبياء سابقين (إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام). علما بأن مناسك الحج نفسها مرتبطة بقصة هذين النبيين الكريمين.

مريد السعادة يستطيع أن ينتزع الفرحة من براثن المصيبة. علما بأن الحزن في حد ذاته أمر فطري ملازم للنفس البشرية عند المصائب لا يستطيع أحد أن يتخلص منه بالكلية.

هذا الحدث -الذي نعرفه جميعا- هو أن الله عز وجل رزق خليلَه إبراهيم ولدا على كبر، ثم أمره أن يترك ولده هذا وهو مازال رضيعا مع أمه وحدهما بالأرض التي سيرفع عليها الأبُ والابنُ قواعدَ البيت الحرام مستقبلا، ثم لما كبر هذا الولد وبلغ مع أبيه السعيَ؛ جاء أمر من الله في صورة رؤيا للوالد بذبح الولد!! وهو ما استجاب له الوالد كعادته مع أوامر ربه مهما كانت ثقيلة على النفس، ولما حان وقت التنفيذ بتسليم واستسلام كاملين من الوالد وولده، جاء الفرج من الله سبحانه بأن فدى إسماعيل بذِبح عظيم، ومنها كانت شعيرة الأضحية والتي سُمِّيَ العيد بها، وسياق هذه القصة في سورة الصافات: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)}.

أعتقد أن أحدًا منّا لا يستطيع أن يتصور مقدار الفرحة التي عمّت هذا البيت بعد حصول الفداء، هذه الفرحة التي لم تكن لتحصل أساسا لو لم يكن ابتلاء الله لنبيّه إبراهيم بهذا الأمر الذي قال عنه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ}، وهو المعنى الذي أريد إبرازه في هذا المقال، حيث تمرّ علينا الأعياد تلو الأعياد، والمصائب والبلايا لا تكاد تغادر سماءنا ولا ترحل عن أرضنا، فهل يسوغ لنا أن نفرح ونشعر بالسعادة في خِضَمّ هذه الأحزان؟ وهل من السهل أن يتناسى كلٌّ منّا مصابه ليتمكن من التفاعل مع أهله وأبنائه بمرح وسرور خلال أيام العيد؟

دعونا نؤكد أن الإنسان المفعم بالإيمان صاحب الروح المرحة والنفس الطيبة لا يعطى أحزانه الفرصة أساسا لتتمكن منه وتسيطر عليه، فالصادق في بحثه عن السعادة والحريص عليها تظهر عليه آثارها وإن افتقد أسبابها المادية، وقد قال ابن تيمية: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة. اهـ وقال تلميذه ابن القيم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} في دور الإنسان الثلاثة (الدنيا والقبر والآخرة). اهـ

فحلاوة الإيمان حين تخالط بشاشة القلوب تفعل بها أكثر من ذلك. وبعد اتفاقنا على هذا المعنى؛ نستطيع أن نضرب أمثلة يسيرة على أن مريد السعادة يستطيع أن ينتزع الفرحة من براثن المصيبة. علما بأن الحزن في حد ذاته أمر فطري ملازم للنفس البشرية عند المصائب لا يستطيع أحد أن يتخلص منه بالكلية، حتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بكى عند موت ابنه إبراهيم، وقال: إنَّ العينَ تدمَعُ، والقلبَ يحزَنُ، ولا نقولُ إلا ما يرضِي ربَّنا، وإنَّا بِفِراقِكَ يا إبراهيمُ لَمَحْزُونُون”. لكني أتكلم عن عدم تمكنه من النفس وسيطرته عليها، بل عن إمكانية تحويل المصيبة نفسها من كونها مصدرا للحزن والهمّ، لتصبح مصدرا لسعادة النفس وانشراحها.

افرحوا واسعدوا وعيشوا بهجة العيد، ولا تتركوا الأحزان تسيطر على قلوبكم، واملؤوا قلوبكم يقينا بقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}.

أم حارثة ومقتل ولدها

في يوم بدر أصيب غلام صغير اسمه حارثة بن سراقة بسهم خطأ فقتله، فجاءت أمه تبحث عن خبر يُذهب عنها حزنها ويداوي جرحها ويرطب قلبها، فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ ـ وهي أُمُّ حارثة بن سُراقَة ـ أتتِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا نَبيَّ الله، ألا تُحدِّثُني عن حارثة ـ وكان قُتِلَ يوم بَدرٍ، أصابَهُ سهمٌ غَرْب (لا يعرف من أَي جهة رُمِيَ به) فإن كان في الجنة صَبَرتُ، وإنْ كان غير ذلك، اجتَهَدتُ عليه في البكاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “يا أُمَّ حارثة إنها جِنانٌ في الجنَّة، وإنَّ ابنَكِ أصاب الفِردَوسَ الأعْلَى”. قال الحافظ ابن حجر: قول أم حارثة: (فإن كان في الجنة صبرت) أي: يسليني عنه علمي بشرف مصيره”. اهـ وكان لها ما أرادت، وسمعت من رسول الله عليه الصلاة والسلام ما جعلها تطمئن وتفرح بدخول ابنها أعلى درجات الجنة.

مقتل القادة يوم مؤتة

في غزوة مؤتة أمّر رسولُ الله زيدَ بن حارثة على الجيش، ثم حدد القادة بعده فكان جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم أجمعين-، وقُتل زيدٌ ثم قُتل جعفر ثم قُتل ابن رواحة، لكن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- لم يخبر المسلمين بالخبر عند حصوله، بل انتظر حتى يسوقه لهم متبوعا بالبشرى، فقال كما عند البخاري: «أخذ الرايةَ زيدٌ فأصيب، ثم أخذها جعفرُ فأصيب، ثم أخذها عبدُ الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد عن غير إِمرَة ففتح الله عليه. وما يَسُرُّني أنهم عندنا -أو قال- وما يَسُرُّهم أنهم عندنا». فنلاحظ أنه رغم المصيبة الكبيرة التي أصابت المسلمين بمقتل ثلاثة من أبرز قادتهم العسكريين آنذاك، إلا أن رسول الله أخبرهم بثلاثة بشريات في سياق هذا الخبر المؤلم، الأولى: اكتشاف خالد بن الوليد كقائد جديد داخل الصف المسلم. الثانية: أن الله سيفتح على يديه رغم صعوبة المعركة. الثالثة: أن الشهداء الثلاثة يتنعمون في الجنة حتى إنهم لا يسرهم أنهم لم يكونوا قُتِلوا في هذه المعركة.

وهناك أحاديث وقصص أخرى تدل على أن هذا الحال كان منهجا عاما داخل الجماعة المسلمة، ولم تكن هذه مجرد حوادث فردية، مثل حديث خَبَّاب بن الأرتّ الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ على غَنَمِه. رغم أن خبّابًا جاء أصلا يشتكي شدة تعذيب المشركين للمسلمين. وحديث ضربه للصخرة يوم الأحزاب وقوله: “اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ.. أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ.. أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ” رغم أن الصحابة كانوا في حال لا يستطيع أحدهم أن يقضي حاجته من شدة الخوف.

وأنا هنا لا أريد التفصيل ولا الإطالة، إنما حرصت فقط أن تصل رسالتي لكل المسلمين في عيد الأضحى المبارك: أن افرحوا واسعدوا وعيشوا بهجة العيد، ولا تتركوا الأحزان تسيطر على قلوبكم، واملؤوا قلوبكم يقينا بقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. وكل عام وأنتم بخير وسعادة وعِزٍّ وتمكين.

والله من وراء القصد


التعليقات