أصحاب الأعذار ونصرة المسجد الأقصى

{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة التوبة).

فصاحب العذر لا يتكئ على عذره ويظن أن التكليف قد سقط عنه، ولا يتوهم أنه أصبح بلا دور أو وظيفة، كلا، بل يجب عليه أن يسعى ابتداءً لتلبية النداء

ذكر المفسرون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الناس للنفير والاستعداد للخروج جهادا في سبيل الله، فجاء بعض الصحابة يشتكون عدم وجود المال اللازم والراحلة التي يركبونها، وطلبوا من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يساعدهم في هذا الأمر، فلم يجد رسول الله ما يساعدهم به ولا ما يحملهم عليه، فرجع هؤلاء القوم والحزن يملأ قلوبهم والدموع تغرق أعينهم لأنهم لم يتمكنوا من الخروج في هذه الغزوة.

كانت هذه الغزوة هي غزوة تبوك، والتي سُمِّيَ جيشها (جيش العُسرَة) لما كان من المشقة الشديدة في تجهيزه، وفي قصة كعب بن مالك وصاحبيه -والتي سنفردها بحديث خاص بإذن الله- بيّن كعب بأنه لم يتخلف عن هذه الغزوة إلا أصحاب الأعذار والمنافقون، وحتى لا يختلط على المؤمن حال الفريقين.. نزلت هذه الآيات التي تبين الفارق بين مَن تخلف لعذر حقيقي ومَن كان من الخوالف الذين هربوا من القتال برغبتهم ومحض إرادتهم.

في خضم المحنة التي مر بها أهلنا في القدس مؤخرا، تذكرت الشيخ الكبير الذي كان يصلي بنا العيد في استاد المنصورة، وكيف كان يجلجل بصوته القوي وأدائه الفَتِي: أن لو فتح الحكام باب الجهاد لكان هو أول المتصدرين للجيوش والجحافل التي ستذهب لتحرير المسجد الأقصى. وتذكرت كيف قامت الثورة في مصر وهتفت لنصرة الأقصى والشيخ لم يتحرك!! وبعدما سقط مبارك بدأت الجماهير الواعية تتحرك جهة سفارة الكيان الصهيوني بالقاهرة والشيخ لم يتحرك!! وكانت الحرب على غزة عام 2012 وذهب الشباب أفواجا لأرض الجهاد والرباط والشيخ لم يتحرك!! بل كان الشيخ طيلة هذه الفترة مدافعا منافحا عن الجيش المصري وكأنه جيش صلاح الدين.

وبنظرة سريعة على أشهر كتب التفاسير نجد ابن كثير قد قال: ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد فيها عن القتال، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد، ومنه العمى والعرج ونحوهما، ولهذا بدأ به. (ثم ذكر) ما هو عارض بسبب مرض عَنَّ له في بدنه، شَغَله عن الخروج في سبيل الله، أو بسبب فقره لا يقدر على التجهز للحرب؛ فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم، ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم، وهم محسنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال: {ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم}. اهـ

إذن.. فصاحب العذر لا يتكئ على عذره ويظن أن التكليف قد سقط عنه، ولا يتوهم أنه أصبح بلا دور أو وظيفة، كلا، بل يجب عليه أن يسعى ابتداءً لتلبية النداء، ولننظر إلى عمرو بن الجموح -ذلك الصحابي الأعرج- وكيف أصرَّ على أبنائه يوم أُحُد ليشارك في المعركة رغم عذره، حتى أجازه النبي عليه الصلاة والسلام لما وجد من صدق وعزم، وشوق للجنة في قلب الرجل، أما إذا لم يتمكن صاحب العذر من الخروج حقيقة، فليكن حاله أولا كهؤلاء الذين {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا}، ثم بعد ذلك كان مكلفا بما يقدر عليه نصرةً ودعمًا وتأييدًا لمعارك الأمة التي عجز أن يكون أحد جنودها.

من الإرجاف والتخذيل الذي مورس ضد المرابطين في الأرض المقدسة هو نسبة الفضل لغير أصحابه، حيث خرج بعض الدعاة يهرفون بما لا يعرفون ويقولون مالا يعلمون وينسبون الفضل في فتح أبواب المسجد الأقصى لولي أمرهم وطويل عمرهم

وإذا رجعنا إلى كلام ابن كثير لوجدنا أنه ذكر أمرين، الأول (النصح) وهو صريح الآية: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ}، والنصح يختلف باختلاف إمكانات الناصح ومقوماته، فصاحب القناة عنده ما ليس عند خطيب الجمعة والمحاضر في المسجد، والأمر يختلف بالنسبة لمن لا يملك إلا قلما، وجميعهم داخلون في قوله تعالى: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} أو على الأقل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} ويتدرج الأمر حتى يصل إلى المسلم البسيط الذي لا يملك منبرًا دعويًا أو منصة إعلامية فيتوجب عليه النصح وسط أهله وأولاده، وتعليمهم الدعاء للمجاهدين والمرابطين

الثاني: (لا يرجف بالمجاهدين ولا يثبطهم) وهذا حال الكثيرين للأسف، إذا وجد نفسه عاجزا عن الجهاد أو مقصرا فيه.. بدأ في التخذيل والتثبيط بدلا من تعويضه العجز والتقصير بالحَضِّ والتحفيز!! وقد رأينا كثيرا من الدعاة والمفتين يصرفون وجوه الشباب عن الجهاد، ويشغلونهم بما هو دونه في الأولوية والفضل، بل قد وصل الحال ببعضهم أن ظل يطعن في المجاهدين ويقدح فيهم بما ليس بقادح، حيث يستعمل توصيفات أعداء الأمة ويصنف الحركات الجهادية بأنها حركات إرهابية لا يجوز دعمها ولا نصرتها، وهذا قد فعله المداخلة والجامِيَّة في ليبيا ونصروا حفتر وجنوده، بل قتلوا المجاهدين المسلمين الراغبين في إقامة الشريعة الإسلامية!! كما فعلته نفس المدرسة وغيرهم من الدعاة والمشايخ الخليجيين في تصنيف حماس والإخوان جماعات إرهابية بناء على توجيهات (طويل العمر وَلِيّ الأمر).

ومن الإرجاف والتخذيل الذي مورس ضد المرابطين في الأرض المقدسة هو نسبة الفضل لغير أصحابه، حيث خرج بعض الدعاة يهرفون بما لا يعرفون ويقولون مالا يعلمون وينسبون الفضل في فتح أبواب المسجد الأقصى لولي أمرهم وطويل عمرهم، وهي بجاحة ليست غريبة على هؤلاء في مثل هذا السياق، حيث رأى العالم كله نضال المرابطات يسابق المرابطين، وثبات المجاهدات ينافس المجاهدين، حتى اعترف إعلام الكيان الصهيوني نفسه بأن إصرار المقدسيين أجبر نتنياهو على التراجع وفك الحصار وإزالة البوابات ونزع الكاميرات.

بقي أن نتذكر في الباب حديثين شريفين، الأول ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- لمَّا رجع من غزوة تَبُوكَ وَدَنَا من المدينةِ قال: “لَقَدْ تَرَكْتُمْ بِالْمَدِينَةِ رِجَالاً مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ، وَلاَ أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، وَلاَ قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ، إِلاَّ كَانُوا مَعَكُمْ فِيهِ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟! قَالَ: “حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ”. وفي رواية مسلم: “حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ” فهذا الحديث يزيد على معنى الآية أن صدق أصحاب الأعذار يحقق لهم الأجر الذي تمنوه ورغبوا فيه، بل يصل الأمر إلى رفعة من مات على فراشه ليبلغ منازل الشهداء بصدق نيّته.

الحديث الثاني: ما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ”. وهو حديث مخيف ليس فقط لمن لا يدعم المجاهدين أو يناصرهم، بل يصل لمن لا ينوي المشاركة. قال القرطبي صاحب كتاب المُفهِم: (فيه ما يدل على أن من لم يتمكن من عمل الخير فينبغي له أن يعزمَ على فِعله إذا تمكن منه وأن ينويه، فيكون ذلك بدلاً من فعله في ذلك الحال. فأما إذا أخلى نفسه عن ذلك العمل ظاهرًا وباطنًا عن نموه؟ فذلك حالُ المنافق الذي لا يعملُ الخير، ولا ينويه. وخصوصًا: الجهاد الذي به أعز اللهُ الإسلام، وأظهر به الدِّينَ حتى علا على كل الأديان، ولو كره الكافرون. اهـ

والله من وراء القصد


التعليقات