حتى لا يُستباح الحَرَم

في عام 2007 نشر الدكتور عبد العزيز مصطفى كامل مقالا بعنوان: “حتى لا نظل عصا في يد العم سام” رصد فيه ظاهرة تاريخية تكررت كثيرًا منذ إسقاط دولة الخلافة العثمانية، وهي استمرار أعدائنا -وخاصة الأمريكان- في ضرب أعدائهم بنا، مع استمرائهم ضرب فريق من المنسوبين للأمة بفريق آخر، وإعانة كلا الفريقين في حربهما لإنهاك بعضهما ببعض، أو إنهاء بعضهما على يد بعض، وكان المثال الأبرز لهذه الظاهرة هو الصراع السني الشيعي أو الحرب العربية الإيرانية.

وكان مما قاله الدكتور في مقاله: لا أحد من العقلاء -فضلاً عن أصحاب الدِّين- يمكن أن يدافع عـن الجـرائـم التـي تُرتكـب باسم التشيع المزعوم لآل البيت، ولا يمكن لأحد أن يسوِّغ الخيانات العظمى التي ارتُكبت، ولا تزال تُرتَكب ضد أمة الإسلام، بزعم محاربة الوهابية السُّنّية! ولكن: أيكون هذا هو عِلّة الحرب التي تدبّر لها أمريكا الآن وهل هذه المواجهة لنصرة السُّنّة على البدعة حتى ينشأ تحالف (سُّنّي أمريكي)؟!

ورغم مرور عشر سنوات على كتابة المقال، إلا أنه يجسد الحالة التي نعيشها هذه الأيام بحذافيرها، حتى إن الدكتور عاد في كتاب نشره أواخر 2016 بعنوان: “حتى لا يُستباح الحَرَم” ليتساءل: ما إمكانية استخدام أمريكا والغرب للشيعة عصا جديدة يضربون بها السُنة ثم يكسرونها؟.. أو يستخدمون السُنة عصا يكسرون بها الشيعة ثم يحطمونها؟

تقوم إيران بحماية الشيعة وأبناء العرق الفارسي والدفاع عنهم في كل مكان. في حين تحارب السعوديةُ المسلمين السّنّة الذين شاركوا في الربيع العربي، ولا تترك لهم متنفسا في مكان على وجه الأرض.

ومن أعجب ما وقعت عيني عليه في الآونة الأخيرة تغريدة للداعية السعودي المشهور علي الربيعي، يقول فيها: على خطباء المسلمين التوقف مؤقتا عن الدعاء على اليهود والنصارى، وتركيز الدعاء على الوثنيين الشيعة ودولة إيران المجوسية وهذا من فقه النوازل. اهـ، في تَعَدٍّ صارخ على حدود الله وشرائعه، حيث يجعل فريقا من المبتدعة أولى بالدعاء عليهم من أعداء الأمة المحتلين لها والناهبين لمقدراتها والقاتلين لخيرة شبابها!! بل حتى كأنه ينشئ تعارضا بين الدعاء على اليهود والنصارى والدعاء على الشيعة، والسؤال الذي يتبادر لذهن القارئ: هل رأَى الدكتور الربيعي صعوبة استجابة الله للدعاء عليهم مجتمعين، أم أن هناك تناقضا سيقع فيه خطيب الجمعة لو شمل الثلاثة في الدعاء؟!

الظاهر من خلال متابعة الأزمة الخليجية القطرية، أن المطلوب هو أن نسلط الضوء على خطر الشيعة في مقابل غض الطرف عن جرائم الصهاينة والصليبيين “اليهود والأمريكان”، لحاجة في نفس طويل العُمْر وأتباعه، لكن المشكلة التي ستقع فيها السلفية الخليجية، أنهم طوال فترة تحذيرهم من خطر الشيعة، وحتى وهم يحذرون من جماعة الإخوان المسلمين، دائما ما كانوا يصفونهم بالخيانة والعمالة لصالح أمريكا وإسرائيل، وأنهم تابعون للماسونية والصهيونية العالمية، وهذا منتشر في كتابات ومحاضرات المداخلة والرسلانيين بشكل بارز ومعروف، فكيف بهم اليوم وولِيُّ أمرهم يدعو للتطبيع مع اليهود والتعاون مع الأمريكان من أجل القضاء على الحركات والتنظيمات الإرهابية؟!

العجيب في ذلك كله.. أن المتابع للأحداث سيجد أن الإيرانيين أكثر تفوقا وتميزا من التحالف الذي تقوده السعودية في التعاطي مع الأمر، فإيران تحسن وضع أقدامها في المكان الذي يحقق مصالحها، في حين أن السعودية تسير في اتجاه معاكس تماما لمصالحها هي وحلفائها، وقد رصدت ذلك في نقاط بارزة كما يلي:

لو كانت السعودية حريصة على مصالحها، لكان بإمكانها أن تدعم الرئيس محمد مرسي، وتشكل مع مصر وتركيا محورا سُنّيًّا قويا، كان هذا المحور كفيلا بحماية اليمن ومنع سقوطها بيد الحوثيين.

  1. تقوم إيران بحماية الشيعة وأبناء العرق الفارسي والدفاع عنهم في كل مكان. في حين تحارب السعوديةُ المسلمين السّنّة الذين شاركوا في الربيع العربي، ولا تترك لهم متنفسا في مكان على وجه الأرض.
  2. تؤسس إيران ميليشيات وحركات مسلحة في عدد من البلدان في المنطقة، حتى صارت أذرعا عسكرية حاكمة أو شبه حاكمة كما هو الوضع في لبنان ثم العراق ثم سوريا ثم اليمن، وحتى أجبرت أمريكا والكيان الصهيوني على احترامها وتقديرها. في حين تقضي السعودية على كل الحركات الإسلامية السّنّية “العسكري منها والسياسي” ولا تدعم إلا بعض حركات دعوية نفعية لا قيمة لها ولا تأثير على مجريات الأحداث، ومن ثَمّ لا تجد أي احترام لها من الدول الكبرى إلا من أجل ابتزازها وسلب أموالها.
  3. عند الإيرانيين قدر من المرونة والحنكة السياسية، بحيث يتمكنون من التفاوض والاتفاق مع خصومهم وأعدائهم بما يحقق مصالح حقيقية للطرفين، حتى إنها تدعم حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وتمدهما بالمال والسلاح، وكانت ولازالت تدعم بعض الفصائل السّنّية في مصر وغيرها. في حين تقبع العقلية السعودية في مستنقع الجمود والجهل السياسي حتى لا تستطيع تقدير الأمور من جانب المصالح المشتركة مع الحركات الإسلامية والدول الداعمة لها كما حصل مع جبهة الإنقاذ بالجزائر، ومع القاعدة في أفغانستان واليمن وسوريا، ومع التيار السلفي الذي ضحّت به في لبنان، ومع الإخوان في مصر وليبيا، ويحصل حاليًا مع قطر وتركيا وحماس.
  4. تستفيد إيران من إعلان العداء مع الكيان الصهيوني، ورفع شعار “الموت لأمريكا”، في جلب تعاطف كبير من شعوب المنطقة، ولولا جرائمها الأخيرة في سوريا والعراق واليمن لكان لها شأن آخر في نفوس المسلمين عموما. في حين تعلن السعودية التطبيع مع الكيان الصهيوني وتطالب كل الدول العربية بإعلانه، وتستقبل ترمب وتلقي بالمليارات تحت قدميه وتعقد معه صفقات كلها في مصلحة أمريكا، حتى أصبحت سمعتها وسط جماهير المسلمين في الحضيض.
  5. تتحرك إيران بقوة وسرعة شديدة داخل العمق الإفريقي، حتى تمكنت من تشييع الملايين هناك، وقامت بتجهيز وإعداد طاقة بشرية ضخمة لا يستهان بها كل ولائها لإيران. في حين تهتم السعودية بطباعة المصحف الشريف واستنساخ حفاظ للقرآن الكريم، لكنهم لا يفقهون من الدين شيئا أكثر من طاعة وتمجيد ولي الأمر.

ولو كانت السعودية حريصة على مصالحها، لكان بإمكانها أن تدعم الرئيس محمد مرسي، وتشكل مع مصر وتركيا محورا سُنّيًّا قويا، كان هذا المحور كفيلا بحماية اليمن ومنع سقوطها بيد الحوثيين، ولتمكن هذا المحور من وضع بصمته القوية في الملفَّيْن السوري والليبي بما يخدم مصلحة الشعبَين السُّنّيَّين فيهما، لكن الغباء قادهم لدعم وتمكين الانقلاب في مصر، والأسوأ من ذلك أنهم تركوا الإمارات تشارك في دعم الانقلاب التركي الفاشل، ولعل الأيام تثبت ضلوع السعودية نفسها في هذه الجريمة.

السياسة المتبعة حاليا وآخرها الحصار المفروض على قطر بدعوى دعمها للإرهاب، لهي سياسة التعجيل باستباحة الحرم، وليس ثمة سبيل لحماية الحرمين الشريفين مما يكاد لهما إلا بالتراجع والاعتذار للأمة عن هذه السياسات الخرقاء الحمقاء.

والذي أتوقعه في المرحلة المقبلة، أن إيران ستسعى لتحسين صورتها عند عموم المسلمين، وستحاول بشكل أو بآخر أن تزيد دعمها لحركات المقاومة الفلسطينية، بل ممكن أن تدعم أي حركات مقاومة ناشئة في مصر لإشغال السيسي والجيش المصري بأوضاعه الداخلية، وستقلل أو ستوقف أي اعتداء شيعي على المدنيين السُّنة في سوريا والعراق. في حين يتوجب على السعودية أن تعيد ترتيب أوراقها، وتضع القضية الفلسطينية على رأس أولوياتها، وتحسن علاقتها بالحركات الإسلامية السُّنية، وتعمل على دعمها واحتوائها قبل أن تصبح هذه الحركات خنجرا طاعنا في خاصرتها، وتراجع حساباتها فيما يتعلق بشعوب بلدان الربيع العربي، ولتعلم السعودية أن استمرارها في الانبطاح أمام أوامر السيد الأمريكي لن يزيدها إلا ذُلًّا وخسارا، ولن تختلف عاقبتهم عن عاقبة الشريف حسين الذي استخدمته بريطانيا لطعن الدولة العثمانية ثم ألقت به في صندوق القمامة.

حتى لا يُستباح الحَرَم

أكاد أبكي عندما أنظر إلى الحرمين الشريفين فأجدهما محاصرَين من الأعداء التاريخيين للأمة الإسلامية “فارس والروم”، وقد أنتجت سياسة الغباء المتبعة في الدول العربية منذ عقود فراغ محيط الحرمين من أية قوى حقيقية قادرة على الدفاع عنهما، فقد أدت سياسة الحرب على الإرهاب “المزعومة” في تقليم أظافر كل القوى الشعبية السّنّية، بلل وصلت درجة الحمق عند ساسة دول الحصار أنهم يريدون القضاء على حماس التي تمثل الأمل الأكبرر عند المسلمين في استعادة القدس وتحرير المسجد الأقصى، فمن كان يصدق أن تُصنَّف حماس إرهابية عند دول تدعي نصرة الإسلام؟! ومن كان يصدق أن يُصنَّف الدكتور يوسف القرضاوي إرهابيا من دول لطالما كرّمته على خدماته وتضحياته في سبيل قضايا أمته؟!

نعم.. إن السياسة المتبعة حاليا وآخرها الحصار المفروض على قطر بدعوى دعمها للإرهاب، لهي سياسة التعجيل باستباحة الحرم، وليس ثمة سبيل لحماية الحرمين الشريفين مما يكاد لهما إلا بالتراجع والاعتذار للأمة عن هذه السياسات الخرقاء الحمقاء، ولابد من التصالح مع قطر واستعادة العلاقات مع تركيا، كما ينبغي العمل على تصحيح المسار في مصر، وبخلاف ذلك.. أكاد أجزم بأن مدعي نصرة السنة وخدمة الحرمين الشريفين سيندمون أشد الندم، لكن حين لا ينفع الندم.


التعليقات